جاء خطاب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أمام مجلس الشورى باعتباره حدثاً استثنائياً بكل المقاييس، حيث تجاوز التوقعات والتكهنات، سواء على مستوى وضوح الرؤية الداخلية أو حدة الرسائل السياسية الخارجية. بالنسبة إلى المراقبين في الخارج، بدا الخطاب صادماً بصراحته ووضوحه؛ إذ سمّى الأشياء بمسمياتها من دون مواربة، أما السعوديون فقد تلقوه على أنه بلسم طال انتظاره، ليبعث الطمأنينة بأن السعودية المتجددة دائماً في الموعد، وأن «عرّاب رؤيتها» قادر على صناعة الدهشة في كل منعطف. لقد كان بحق «مانفيستو الرياض» في زمن الفوضى العالمية، حيث اجتمعت فيه عناصر الثبات والوضوح والقوة والقدرة على القيادة، حاملاً عشر رسائل تاريخية.
الرسالة الأولى انطلقت من الاستحضار والاعتزاز بتجذر هذه البلاد وتجربة دولتها منذ ثلاثة قرون من الثبات على قيم الشريعة والعدل والشورى والاعتزاز بالإسلام، لتؤكد أن الدولة السعودية لم تقم على مصالح عابرة بل على قيم متينة، وأن خدمة الحرمين الشريفين ستظل الشرف الأعظم والغاية الأولى. أما الرسالة الثانية فجاءت اقتصادية بامتياز، حيث كشف الخطاب عن تحوّل تاريخي في بنية الاقتصاد السعودي، بعدما بلغت الإيرادات غير النفطية للمرة الأولى 56 في المائة من الناتج المحلي، متجاوزة 4.5 تريليون ريال، لتصبح المملكة أهم مركز عالمي صاعد وجاذب للاستثمار بفضل «رؤية 2030» التي سبقت أهدافها واستقطبت أكثر من 660 شركة عالمية.
الرسالة الثالثة فتحت أفق المستقبل، معلنة أن الرياض تتأهب لتكون مركزاً عالمياً في الذكاء الاصطناعي، بما يعنيه ذلك من ريادة تقنية وموقع متقدم في الاقتصاد المعرفي. ثم جاءت الرسالة الرابعة لتؤكد أن السيادة لا تنفصل عن الصناعة الدفاعية؛ حيث ارتفعت نسبة التوطين في المجال العسكري إلى 19 في المائة بعدما كانت لا تتجاوز 2 في المائة، لتبرهن على أن الدفاع السعودي لم يعد استيراداً بل صناعة وطنية تحمل بصمة المملكة، وتسير بها إلى مصاف القوى الكبرى.
الرسالة الخامسة شددت على بناء فلسفة مالية عامة صلبة ومستدامة، لا تعتمد على مصدر وحيد متذبذب مثل النفط، بل على تنوع في الإيرادات وتوسيع في فرص العمل ورفع مستوى الخدمات وتحسين جودة الحياة لكل من يعيش على أرض المملكة. أما الرسالة السادسة فقد وضعت الإنسان السعودي في القلب، عبر استعراض إنجازات ملموسة تمس حياة المواطن: انخفاض البطالة، وارتفاع مشاركة المرأة، وتراجع محدودي الدخل. ولم يتردد الخطاب في تسمية التحديات بشجاعة حين تناول أزمة ارتفاع أسعار العقار السكني، معلناً سياسات لإعادة التوازن وخفض التكلفة، وتوسيع الخيارات أمام المواطنين والمستثمرين.
وجاءت الرسالة السابعة لتجسد مرونة الرؤية وجرأتها، حيث أوضح ولي العهد أن المصلحة العامة هي البوصلة العليا، وأن الدولة لن تتردد في تعديل أو إلغاء أي برنامج إذا لم يحقق الأهداف المرجوة، وهو ما يعكس ثقة ومرونة بعيداً عن الجمود أو الإصرار على المسارات غير المثمرة. أما الرسالة الثامنة فكانت سياسية وأخلاقية في آن، إذ أدان الخطاب العدوان الإسرائيلي على غزة وجرائم التهجير والتجويع، مؤكّداً أن أرض غزة فلسطينية وحق شعبها ثابت لا يلغيه عدوان، كما أعلن دعماً بلا حدود لقطر الشقيقة وتسخير كل إمكانات المملكة لنصرتها.
الرسالة التاسعة ارتبطت بالمجتمع الدولي، حيث استدعيت مبادرة السلام العربية لعام 2002 لتكون المنصة الوحيدة للحل العادل، وأكدت المملكة أنها تقود حشداً غير مسبوق للاعتراف بالدولة الفلسطينية، بما يعكس انتقالها من موقع المدافع عن الحق إلى صانع التوافق الدولي من أجل العدالة. ثم جاءت الرسالة العاشرة لتسلّط الضوء على الداخل المؤسسي، عبر إشادة بدور مجلس الشورى في تطوير الأنظمة واستكمال التشريعات بما يضع المملكة في مصاف الدول المتقدمة، ويؤكد أن التحديث المؤسسي يمضي جنباً إلى جنب مع التحولات الاقتصادية والسياسية الكبرى.
جاء خطاب ولي العهد في مجلس الشورى تاريخياً وشاملاً في تجلياته السياسية والاقتصادية والهويّاتية، لا يكتفي باستعراض الإنجازات بل يرسم معالم مرحلة سعودية متجددة، قوامها الجذور الراسخة، والاقتصاد المتين، والسيادة الدفاعية، والإصلاح الاجتماعي، والقيادة الأخلاقية في زمن الفوضى.
«مانفيستو الرياض» التاريخي يؤكد على أن الرياض لا تكتفي بالمراقبة بل تصنع الأحداث، وأنها اليوم أكثر من أي وقت مضى في قلب المنطقة والعالم، ثابتة على هويتها، وواثقة في مستقبلها، وماضية في مواقفها العادلة التي تضعها في موقع القيادة بجدارة.