حين تزور «متحف الأميركيين الهنود» في واشنطن، تمرّ بالمعروضات والشروحات التي تُظهر مدى «الإنسانية» و«الرفق» الشديدين اللذين عُومل بهما السكان الأصليون، والاتفاقات «المنصفة» معهم. لا مكان هنا للحديث عن «إبادة» و«إفناء» شعب، بل «وئام» و«رحمة». مع ذلك، تُفاجأ بالمعلق على وثائقي حول «الود» بين المستعمرين والسكان الأصليين، تختتم به زيارة المتحف، وهو يقول: «لكن الهنود لن يستسلموا أبداً».
كنتَ قد ظننت أن الحكاية انتهت، إنما رعب الظالم من المظلوم يبقى كامناً، حتى لو صار الأول أكبر قوة في العالم.
وإسرائيل التي تريد أن تحول الفلسطينيين إلى هنود حمر، وهي تبيدهم في غزة، وتتحضر لطردهم من الضفة، تشعر بأنهم من القوة بحيث يمكنهم أن يقلبوا المعادلة في أي لحظة. بلغ الجنون حدّ استباحة كل شيء. في يوم واحد كانت تقصف وتغتال في لبنان وقطر والضفة وغزة، تضرب اللاذقية وحمص، ولم تنتظر أسطول الصمود العالمي الأعزل ليصل إلى مشارفها، فأرسلت مسيّرتها العدوانية إلى شواطئ تونس.
إسرائيل تباهي بأنها تنتهك القوانين، وأنها أقوى من الأعراف والقيم، ولا تحترم مفاوضات، ولا جهة وسيطة، ولا استقلالية دول. ما يبدو للبعض معيباً، فاقعاً وخطيراً، إسرائيل تعتبره تفوقاً وسطوة، ونفوذاً. نتنياهو لم يعد حالة فردية، وزراؤه المتطرفون ليسوا وحدهم. بينما كان نتنياهو، بعد عملية الدوحة، ينذر العالم أجمع: «سنصل إلى أي مكان يوجد فيه من يهدد أمن إسرائيل»، كان التصفيق يعلو حوله تشجيعاً. ورئيس الكنيست يغرد متفاخراً بأن «ضرب قطر رسالة لكل الشرق الأوسط». أي جهل أن يظن بضعة ملايين، يمارسون أبشع أنواع الجريمة على محيطهم، يعيشون في بحر من 400 مليون عربي، أن بمقدورهم ممارسة العقاب الجماعي، إلى ما لا نهاية، وتوجيه إهانات بالجملة من دون حساب.
يائير نجل نتنياهو يهاجم أي أحد من دون اعتبار، كتب أن رئيس وزراء بريطانيا «كير ستارمر شيوعي حوّل بلاده إلى المملكة المتحدة الإسلامية... يسير على طريقة جورج أورويل في رواية (1984)، يشجع أسياده القطريين». أما قطر فوصفها بـ«ألمانيا النازية الجديدة» و«القوة الرئيسية وراء الموجة غير المسبوقة من معاداة السامية في العالم».
الحديث عن تطرف نتنياهو وحده أمر فيه مبالغة. الاستطلاعات تظهر عنفاً ورغبة في القتل والاستزادة منه داخل المجتمع الإسرائيلي، إلا حين يتعلق الأمر بمصالحهم. يكفي أن تتابع وسائل إعلام عبرية، لتسمع تكراراً أن الخطر بعد إيران ولبنان، هي تركيا، ومصر، وسوريا، وقطر ودول كثيرة أخرى.
لم نعرف منذ الحرب العالمية الثانية فجوراً بهذا الوزن، كيان صغير يهدد كل من حوله، يقصف حيث تسول له نفسه، وينذر بأنه مستمر طالما أن أمنه مهدد. من دون أن يعرف أحدٌ ما هو التهديد، وما حدوده. بقايا أسلحة الجيش السوري القديم المتهالكة اعتبرها تهديداً، سفن لا تبحر في اللاذقية قصفها. قطر البعيدة 1800 كيلومتر لم يوفرها.
هاجمت روسيا، أوكرانيا، فقامت قيامة الغرب. احتل صدام حسين الكويت فبدا للجميع أنه جُنّ كي يقدم على خطيئة بهذه البشاعة. تكتلت 35 دولة لردعه. إسرائيل تقتل وتقصف وتحرق وتحتل في كل الاتجاهات. تعتدي على دول لا تشاركها أي حدود. ومع ذلك باستثناء إسبانيا التي اتخذت موقفاً واضحاً بالمقاطعة والمعاقبة، الغرب كله لا يزال يشعر بالحرج من أي إجراء عقابي وموجع اتجاه ابنته المدللة. قبل أيام من الهجوم على الدوحة، تسرب أن شحنة أسلحة ألمانية وصلت إلى إسرائيل.
سعيد هذا النتنياهو، وهو يشعر بأنه أشبه بمصاص دماء، يبقى عطِشاً رغم أنه يقصف على سبع جبهات وقتل أكثر من 60 ألف غزي. ربما يشعر بفخر شديدٍ وانتعاشٍ لا حدود له. فالسلام بالنسبة إليه لا يأتي إلا على الكثير الكثير من الدماء، وبعد إخضاع الأنفاس.
نقول ذلك، لأن انتهاكات عديدة كان يمكن لإسرائيل تجنبها. بمقدورها اغتيال قادة «حماس» فرادى ومن دون ضجيج، لكنها أرادتها عملية استعراضية صادمة، أمثولة للمنطقة كلها. تقصدت الاعتداء على سيادة دولة وسيطة ليست مصنفة عدوة علناً على الأقل. المستهدفون يناقشون مقترحاً أميركياً لوقف الحرب، يجتمعون في مكان معلوم، ولا يتوقع أحدٌ اغتيالاتٍ على هذه الصورة وفي هذا التوقيت. فإذا بإسرائيل تهزّ العالم بفعلتها الشنعاء، التي هي وحدها تعتبرها انتصاراً مدوياً، حتى قبل أن تتأكد من اغتيال رؤوس «حماس».
يقدر عدد الهنود الحمر في أميركا قبل تعرضهم للمقتلة الكبرى، أكثر من 15 مليوناً، لا يتجاوز عددهم اليوم 4 ملايين، أي أقل من 2 في المائة من السكان، مع ذلك ثمة إحساس باطني بأنهم لم يستسلموا بعد. إسرائيل الآتي منها أعظم، كتب وليد جنبلاط. فكل ما يتحرك في المنطقة العربية ترى فيه خطراً يتوجب إزالته.