: آخر تحديث

الصراع على لبنان

5
4
4

تقف «بلاد الأرز» مرة أخرى أمام مصيرها. الكثير من التكهنات والتوقعات والاحتمالات في انتظار عودة الموفد الأميركي توم برّاك إلى بيروت بعد أسبوعين لبحث مسألة حصر السلاح في يد الدولة ووجوب إجراء الإصلاحات الضرورية في مجمل القطاعات الحيوية في البلاد. ما الذي سيحدث؟

مع اختلاف المعطيات الإقليمية والدولية، تُذكِّر هذه المرحلة إلى حد بعيد بمرحلة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وثورة «14 آذار» الشعبية وانسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005. كأنّ التاريخ يعيد نفسه بعد 20 عاماً، مع أنه لا يعيد نفسه تماماً أبداً.

شكّل عاما 2005 و2024، مثلهما مثل عامي 1861 و1918، لحظة «الخلاص العجائبي» للحركة اللبنانية بعد أن انتفى الأمل في قيامتها. من كان ينتظر انبعاثها بعد الرهان العثماني على مجازر 1860 في جبل لبنان ودمشق الذي تحقق؟ ومن كان ينتظر قيامتها بعد مجاعة 1915 – 1918 الرهيبة التي أودت بحياة ثلث سكان جبل لبنان، وهي مأساة تاريخه الكبرى؟ وكم من اللبنانيين أملوا حقاً في الخلاص بعد 30 عاماً من الهيمنة البعثية الأسدية المطبقة على لبنان؟ ثم من هيمنة المحور الإيراني شبه الكاملة على مدى 20 عاماً؟

ندرك تماماً أن التحوّل هو الثابتة الوحيدة في تاريخ المجتمعات البشرية. وأن الحاضر يبدو دائماً أكثر قوة بكثير مما هو عليه. ونعلم تماماً أن التقاء العامل الداخلي بالعامل الخارجي في ظرف معيّن هو الذي يصنع التحوّل. وهكذا كان.

لقد بقيت الجذوة اللبنانية متّقدة وحيّة في الداخل على الدوام. وقد صبّت في مصلحتها عوامل خارجية حاسمة لم يكن لها يد فيها ولا تأثير عليها قط، في المرّات الأربع المتوالية خلال قرن ونصف القرن: غضبة الرأي العام الأوروبي العارمة إثر مجازر 1860، انتصار الحلف الفرنسي - البريطاني على المحور الألماني - النمساوي - التركي في الحرب الكونية الأولى، الانقلاب الأميركي والأوروبي على الوجود السوري في لبنان عام 2005، وتفكّك المحور الإيراني في لبنان وسوريا والمنطقة نتيجة الحروب التي تلت «طوفان الأقصى».

أودّ العودة هنا إلى تأكيد نقطة منهجية أساسية. إن تحليلي، على مدى زمني طويل للمسألة اللبنانية، ومجمل الدراسات في مجال الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية التي أجريتها حولها، تقود إلى الاستنتاج التالي: على الرغم من وجود التناقضات الطائفية والمذهبية والعشائرية، وأحياناً الإثنية، في مجتمعات المنطقة، فإن التناقض الأساسي في المكان اللبناني طوال الأزمنة الحديثة (من القرن السادس عشر إلى اليوم)، خصوصاً خلال القرن ونصف القرن الأخيرين، هو التناقض الثقافي الحياتي بين حركتين، الحركة اللبنانية التائقة إلى الإفلات من نظام المحيط نحو نمط حياة سماته الحرية والمعرفة والانفتاح والحداثة، والحركة الإقليمية الهادفة إلى إعادة دمج الحركة اللبنانية في نظام المحيط، العثماني والوحدوي السوري والوحدوي الناصري والماركسي الأممي والإيراني الإسلامي. ولا يمكن فهم تاريخ المكان اللبناني في الأزمنة الحديثة إلا في ضوء هذا التناقض، وهذا التجاذب. إنه مفتاح فهمه الأوحد.

ونعود إلى الحاضر لنتساءل: لماذا ما يحدث اليوم في لبنان يذكِّر بما حدث عام 2005؟ لأنه، ويا للأسف! تتكرّر اليوم بعد 20 عاماً الظاهرة نفسها: يتخلى أولياء الأمر عن مشروع التغيير المؤتمنين عليه، ليعيدوا إنتاج الوضع السياسي التقليدي نفسه.

عام 2005، بعد أن حدث ذلك الأمر الذي لا يُصدَّق الذي هو انسحاب الجيش السوري من لبنان، سرعان ما تخلّى المؤتمنون على ثورة «14 آذار» الشعبية عن أهدافها وروحيتها، فرفعوا شعارات «لبننة حزب الله»، و«لا أحد أكبر من بلده»، و«صون الوحدة الوطنية»، لتبرير إعادة تقاسم النفوذ التقليدي نفسه، عبر أولوية التحالف مع الثنائي الإقليمي في لبنان، وإبرام «الحلف الرباعي» و«اتفاقية مار مخايل»، ما أوصل «بلاد الأرز» في نهاية المطاف إلى قعر الهاوية.

واليوم، بات الأمر واضحاً. يتمّ التخلّي نفسه عن حلم التغيير الذي جسدته انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 الشعبية اللبنانية، وعن تراجع المحور الإيراني في المنطقة، لتُعطى الأولوية للتحالف من جديد مع ثنائي المحور، لإعادة إنتاج الواقع السياسي التقليدي نفسه، إن في تشكيل الحكومة، أو في تقاسم النفوذ بالطريقة المعهودة في التعيينات الهامة الكثيرة التي جرت وتجري. لم يكن مطلوباً عام 2005 نزع سلاح «حزب الله» بالقوة، ولا هو مطلوبٌ اليوم أيضاً، لأن لبنان لا يتحمّل مثل هذا الصدام.

المطلوب إعادة بناء الدولة وإجراء التعيينات على أسس جديدة تتيح الإصلاحات الجذرية المطلوبة، والمحاسبة الشاملة للمسؤولين عن طوفان الهدر والفساد منذ 40 عاماً. فكيف يكون ذلك والعديد منهم هم الذين يسمّون ويفتون ويعيّنون من يشاءون؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد