لا يمكن الحسم، منذ الآن، تحت أي عنوان ستوصف المواجهة المستعر أوارها حالياً، بين الهند وباكستان، في سجل الصراع التكويني، والمزمن، بين البلدين، منذ “انفصال” 1947 الذي أوجدهما، وحرب كشمير الأولى 1947-1949 التي حكمت على العلاقة بينهما بـ”الاستعصاء المستدام”.
يبقى أن، العناصر الأساسية باتت متوفرة لإطلاق توصيف “الحرب الخامسة” على المواجهة الحالية. فما بين مقتلة السياح الهندوس في بهالغام، 22 نيسان/ابريل، وعملية “سندور” الهندية في 7 ايار/مايو التي استهدفت ما اعتبرته حكومة نيودلهي مساجد ومبان تتبع لجماعة “عسكر طيبة” المتهمة بتدبير مذبحة بهالغام، والرد الباكستاني بعملية “البنيان المرصوص” بدءاً من 10 ايار/مايو التي استهدفت قواعد جوية ومواقع عسكرية هندية فتحت المجال للاستهداف المتبادل، بالمسيّرات والصواريخ للعمق بين البلدين، ناهيك عن الاشتباكات بين الجيشين على طول خط الجبهة في مرتفعات كشمير، يمكن القول أنها الحرب، ولا شيء غير.
إذ امتدت نيرانها إلى مدن كأمريتسار وجامو وسرينغار وجايسالمر، بل شملت الغارات الباكستانية العاصمة الهندية، وجرى حتى صباح السبت في المقابل استهداف بهاولبور ومرديكه وكراتشي ولاهور وراولبندي.
فقط، الايقاف السريع للمواجهة الحربية الحالية يمكن أن يحرمها من توصيف “الحرب الخامسة”. لكن، الوساطات بدت كأنها تلازم عتبة لجم التصعيد، إلى أن أعلن الرئيس الأمريكي موافقة البلدين على الوقف الفوري للأعمال العدائية، ولم يعرف على أي أساس، حتى موعد إعداد هذه العجالة.
هذا بالإضافة إلى غياب إعلان رسمي للحرب، رغم العنف المتبادل، والكراهية التعبوية الحامية. لكن، من ذا الذي في عالم اليوم يسمي ما يقوم به على أنه “حرب”؟ روسيا في حرب واجتياح وضم لأراض واسعة من أوكرانيا، لكنها لا تزال تعتبر أنها تجري هناك عملية عسكرية لا ترقى إلى رتبة حرب. في عالم اليوم، تُستخدم مصطلحات مثل “عملية عسكرية خاصة” أو “عملية أمنية” بدلاً من “حرب”، رغم أن الوقائع العسكرية تشير إلى ما يتجاوز ذلك.
أيضاً لم يحصل حتى الآن توغل بري واسع، والجهود وقنوات الاتصال تتركز قبل كل شيء كي لا يحصل ذلك. وهذا هو الفارق بين “الحرب الخامسة” وبين الرابعة التي سبقتها عام 1999، حرب كارغيل. يومها عرف العالم أول حرب مباشرة بين دولتين نوويتين، نتيجة توغل بري للباكستانيين، كجيش، وللمسلحين الكشميريين والباشتون المؤيدين لهم، في أعالي اللاداخ، ودام النزاع ثلاثة أشهر، وانتهى بتحقيق عملية “فيجاي” (النصر) الهندية هدفها المتمثل بانسحاب المتوغلين، وقد حصل ذلك في ظل ضغط أمريكي (إدارة بيل كلينتون).
الفارق أنه إبان حرب كارغيل جرى الاتفاق على تجنب الاستهداف في العمق بين البلدين. حتى الساعة، يحصل العكس تماماً: الاستهداف في العمق، بالطائرات والمسيّرات والصواريخ، إنما من دون محاولات توغل. الفارق أيضا، أنه عام 1999 لم يكن الوضع الدولي مختلفا فقط، لكن كان واضحاً أين ينبغي الضغط، ومن أجل ماذا: سحب الجنود والمقاتلين المتوغلين من كارغيل، العودة إلى ما نقطة ما قبل الحرب. الآن الوضع ملتبس أكثر. فمقتلة بهالغام فتحت باب السعي الهندي لمواجهة جماعات تأويها باكستان، فيما باكستان تنفي مسؤوليتها في الوقت نفسه عن مقتلة بهالغام. أعطت الحرب المجال أيضا لليمين القومي الديني الهندوسي أن يفرض سرديته في الداخل الهندي أكثر فأكثر.
خلال حرب كارغيل التي دارت بين الهند وباكستان في عام 1999، كان رئيس وزراء باكستان هو نواز شريف، بينما كان قائد الجيش الباكستاني هو برويز مشرف. خلال الحرب، غامر شريف، المتمتع بدعم قوي بين الملاك العقاريين وكبار التجار وشبكة ولاءات شعبية واسعة في البنجاب – ومعظم الباكستانيين بنجابيين [ما مثل تحديا لعائلة بوتو السندية، ثم لعمران خان الباشتوني] – باقالة مشرف، بعد أن ادعى رئيس الوزراء بأن عملية التوغل في كارغيل حصلت بدون معرفته. النتيجة كانت انقلاب مشرف – تشرين الأول/أكتوبر 1999 والجيش على الحكم المدني – ثم مصادقة المحكمة العليا على الانقلاب بعدها بفترة.
نتيجة حرب كارغيل كانت إذا تولي القائد العسكري المهزوم في تلك الحرب حكم باكستان ما يقارب التسع سنوات، هي السنوات التي ستشهد هجمات 11 ايلول/سبتمبر والاحتلال الأمريكي لأفغانستان وغارات الأمريكان في الداخل الباكستاني أيضاً. ما من حرب بين الهند وباكستان إلا وكان يتبعها تغير لسمة النظام الحاكم في باكستان. بعد الحرب الأولى، صعد العسكر على حساب القيادة السياسية. في 16 تشرين الأول/أكتوبر 1951 اغتيل رئيس الوزراء لياقت علي خان في مدينة راولبندي، معقل الجيش. عزي الأمر في حينه إلى مواقفه إلى جانب أمريكا في الحرب الباردة. لكن عملياً، ما يظهر أكثر هو تسلطن العسكر بعد تلك الواقعة. بعد حرب 1956 سقط نظام أيوب خان. حرب استقلال بنغلاديش 1971 وهزيمة باكستان فيها أعطت فسحة للحكم المدني – الشعبوي، بقيادة ذو الفقار علي بوتو، قبل أن ينقض العسكر عليه، مدعومين من المناخات الإسلاموية، وينتهي الأمر بإعدام بوتو عام 1979 على يد الجنرال محمد ضياء الحق.
في الوقت الحالي، وفيما رئيس الوزراء السابق عمران خان لا يزال يتمتع بشعبية قوية، وهو القابع في سجنه، يعتبر الجنرال سيد عاصم منير، رئيس أركان الجيش منذ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 – بعد أن تولى وكالة الاستخبارات بموافقة من عمران خان – الشخص الذي يتحكم بباكستان أكثر من سواه، انطلاقا من تحكمه بملفات الأمن والدفاع، هو القائد الفعلي. يُكثر الاعتماد على الدين في خطاباته، والمواجهة الحالية استحقاق رئيسي لرؤية ما إذا كان عاصم منير سيوطد سلطته ويمنحها شكلا سياسياً أكثر مباشر، أو لا. إحباط عاصم منير هو في المقابل هدف هندي حالي صميم.
الهند، رغم كل التحديات التي واجهها نظامها الدستوري، لم تشهد هذه التجارب مع العسكريتاريا، وهذا فارق أساسي. فارق آخر، أنها تصنع أسلحتها بنسبة ملحوظة، في حين تبقى باكستان، “اعتمادية” على ما تستورده أو ما تصنعه بالتعاون مع الصينيين.
الدولتان نوويتان، لكن الهند دخلت الثورة الصناعية الآسيوية من بابها الواسع، بمدن صناعية متكاملة، وتكنولوجيا معلومات، وصناعات ثقيلة. باكستان تصنيعها محدود يعتمد على التقنيات المستوردة بنسبة أكبر. صادرات الهند من البرمجيات والأدوية والسيارات، وصادرات باكستان لا تزال تركز على النسيج والأرز. الهند أول دولة آسيوية تصل إلى المدار حول المريخ من أول محاولة 2014 وتحط بمكوك لها على سطح القمر، البرنامج الفضائي الباكستاني محدود، ويعتمد على الخبراء الصينيين. التفاوت الديموغرافي والصناعي بين البلدين، يجعل باكستان أكثر حاجة إلى النووي، كسلاح ردعي، في مقابل الهند، لكن المواجهة الحالية تظهر أيضاً أنها تعتمد على ترسانة من المسيرات التركية، وتعول عليها كثيرا لارهاق الجانب الهندي. يبقى أن هناك جامعا مشتركا بين الهند وباكستان، رغم التفاوت في الحجم والتصنيع، وهو أنه، بخلاف الصين الذي بات أغلب سكانها يعيشون في المدن، فإن تضخم المدن في العقود الأخيرة في جنوب آسيا لم يطح بعد بالأكثرية الريفية في البلدين. هي حرب غير نووية إذاً، إنما بين دولتين نوويتين، وريفيتين، متفاوتتين صناعياً ومن حيث عدد السكان، كما من حيث صلابة النظام الدستوري في كل منهما. حرب ثمة ضغوط خارجية كثيرة لعدم الذهاب بها نحو ما هو أشد فتكاً وكارثية، إنما حتى الآن، من دون أفق منهجي لايجاد سيناريو “تبريد” و”تهدئة” قادر أن يفرض نفسه بسرعة. فهل أن الوقف الفجائي للحرب بقرار من ترامب هو بالفعل تجميد لها؟ أم ترجيح لكفة؟ أم تبديل في الايقاع؟