يتنفس اللبنانيون الصعداء عند متابعتهم الخطوات السياسيّة والاقتصادية المتلاحقة التي تنذر بعودة العرب إلى لبنان بعد سنوات من الغياب القسري الذي فرضته مجموعة من السياسات الحمقاء في المراحل الماضية، والذي كرّسه الواقع الذي كان قائماً قبل الحرب الأخيرة من ناحية التطابق شبه الكامل بين سياسة الدولة الرسميّة وموقف بعض الأطراف المحليّة المعروفة بامتداداتها الإقليميّة.
بعيداً عن الاستقبال «الفولكلوري» في مطار بيروت الدولي لبعض الزوار الخليجيين والجدال حوله وما إذا كان ضرورياً ومناسباً أم لا، فإن ما يحتاج دوماً إلى التصويب والتذكير يتصلُ بطبيعة العلاقات اللبنانيّة - العربيّة، وعمقها وتأثيراتها، خصوصاً على الوضع الداخلي اللبناني على مستويات مركبة ومتعددة.
في المجال السياسي، ثمة نقاش لا بد من حسمه مجدداً له علاقة بهوية لبنان العربيّة. فمع أن وثيقة الوفاق الوطني اللبناني (اتفاق الطائف) يفترض أنها حسمت هذا الجدل بعد نحو خمسين عاماً من اندلاعه، إلا أن ثمة أصواتاً وممارسات غير مسؤولة تقود لبنان (أو البعض منه على الأقل) نحو اتجاهات لا تتلاءم مع مصلحته الوطنيّة العليا.
فالقضيّة ليست مرتبطة بقروض ومساعدات، على أهميتها، لا سيما مع الانهيار اللبناني الكبير، بقدر ما هي مرتبطة بالموقع الطبيعي للبنان الذي لا يمكن أن يكون خارج ما يُصطلح على تسميته «الشرعيّة العربيّة»، أي تلك المنظومة من الدول التي تسعى لتحقيق الاستقرار في المنطقة العربيّة وألا تنزلق إلى مشروعات وهميّة ترتكز على أحلام إمبراطورية قديمة، لن يكون من السهل إعادة إنعاشها خصوصاً بعد التحولات الكبرى في الشرق الأوسط.
إن الموقع الطبيعي للبنان هو أن يكون في «الحضن العربي»؛ لأنه إذا كان خارجه فهذا يؤدي إلى عزلته وانكساره وتقهقره مثلما حدث في السنوات القليلة الماضية. والموقع الطبيعي للبنان أن يمارس دوره ويعزّز حضوره العربي، وهو عضو مؤسس في جامعة الدول العربيّة في عام 1945.
ثم، يحق للبنانيين التساؤل عن الهوية البديلة عن الهوية العربية. فمع التقدير للحضارة الفينيقيّة الكبيرة على عكس ما صورها في الماضي أحد السياسيين اللبنانيين الذي لا يعرف قراءة التاريخ، إلا أنها ليست ذات صلة بالواقع الراهن. وليس المجال متاحاً هنا للخوض في نقاش آيديولوجي أو عقائدي لإعادة نبش الخلاف حول هوية لبنان ومدى صحة ارتباطه القديم بالفينيقيين، أقله ما يتصل بشكله وواقعه الحالي. كما أنه ليس الهدف استجرار المجموعات اليمينيّة اللبنانيّة المتطرفة إلى سجال حول الجذور والهوية.
المطلوب التعامل بواقعيّة عالية مع الوضع الراهن وامتداداته السياسيّة، وليس التاريخيّة دون الانتقاص طبعاً من تلك المسارات في عمقها القديم، على قدر ما هي محاولة جدية لإعادة صوغ واقع جديد للبنان على ضوء المتغيرات العميقة التي شهدتها المنطقة.
إذا كان من دروس يمكن استخلاصها إزاء ما حصل في الأشهر القليلة الماضية من تحولات في موازين القوى، فهو أن القفز من المركب العربي ومحاولة الدخول في آخر هو مغامرة غير محسوبة المخاطر؛ إنما محسومة النتائج. ليس من بين العرب من يريد مدّ يد المساعدة إلى لبنان لاستلحاقه بمشروع آيديولوجي أو عقائدي ما، على عكس المحاور الأخرى التي لها أجنداتها التي سقطت، ما يحتّم عليها إجراء قراءة نقدية لسياساتها المعتمدة منذ ما يزيد على أربعة عقود.
وبالمناسبة، العودة العربيّة إلى لبنان مطلوبة ليس لبنانياً فقط، ولو أن للبنان مصلحة أكيدة وغير قابلة للشك في ذلك، ولكن فيها مصلحة عربيّة أيضاً. لقد أثبتت الأحداث أيضاً أن التخلي العربي عن لبنان أكلافه باهظة على هذا البلد والعرب على حد سواء، وأن تكاليف احتضان لبنان (المقصود سياسياً هنا وليس مالياً) تبقى أقل بكثير من تكاليف رهينة تلاطم الأمواج الإقليميّة ومحاولة مصادرة قراره الوطني.
العودة العربية إلى لبنان هي عودة حميدة دون شك.