: آخر تحديث

عبير الكتب: إبريز باريز

3
3
3

الشيخ رفاعة الطهطاوي، من أعلام عصر محمد علي باشا، عزيز مصر وواليها ومؤسس مجدها الحديث في القرن التاسع عشر. وعصر محمد علي كان عصراً خاصاً، إذ فيه تلاقى الشرق العريق بالغرب الحديث، وكان من عناوين ذلك نابليون وعصور القوة والأنوار في فرنسا.

كلنا يعلم عن شرارة الحملة الفرنسية النابليونية على مصر، ثم انبثاق مياه التاريخ عن رجل مشرقي عثماني التربية والتقليد والمناصب، وهو محمد علي باشا، قائد «أورطة» الجنود الألبان.

هبت أعاصير السياسة العاتية على مصر حتى أوصلت الباشا الكبير لعرش المحروسة، ثم دشن الرجل مشروعه الكبير لبناء مصر الحديثة، وكان من مظاهر ذلك المشروع «البعثات العلمية» إلى بلاد أوروبا، وخصوصاً فرنسا.

صاحبنا الشيخ المستنير الذي يخدم في دولة محمد علي، الشيخ رفاعة الطهطاوي، تم اختياره مرافقاً ومرشداً لبعثة من المصريين إلى فرنسا لتعلم العلوم والصنايع، حسب لغة ذاك الدهر.

كتب رفاعة كتاباً عن هذه البعثة، قال عنه: «وقد سميت هذه الرحلة: (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، أو (الديوان النفيس في إيوان باريس)».

* صدر هذا الكتاب عام 1834، كتبه الطهطاوي بعدما رشحه أستاذه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا، مشرفاً على رحلة البعثة، وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه، تدويناً وترجمةً، خمس سنوات.

يقول المؤلف في كتابه المبكر: «تشرفت في خدمة صاحب السعادة أولاً في وظيفة واعظ في العساكر الجهادية، ثم منها إلى رتبة مبعوث إلى باريس صحبة الأفندية المبعوثين؛ لتعلم العلوم والفنون الموجودة بهذه المدينة البهيَّة، فلما رُسم اسمي في جملة المسافرين، وعزمت على التوجه، أشار عليّ بعض الأقارب والمحبين، لا سيما شيخنا العطار الذي كان مولعاً بسماع عجائب الأخبار، والاطلاع على غرائب الآثار، أن أنبه على ما يقع في هذه السفرة، وعلى ما أراه وما أصادفه من الأمور الغريبة، والأشياء العجيبة، وأن أقيده ليكون نافعاً في كشف القناع عن محيا هذه البقاع، التي يقال فيها: إنها عرائس الأقطار، وليبقى دليلاً يهتدي به إلى السفر إليها طلاب الأسفار، وخصوصاً أنه من أول الزمن إلى الآن لم يظهر باللغة العربية -على حسب ظني- شيء في تاريخ مدينة باريس».

ويقول عن منهجه في دراسة باريس وأهلها وعلومها: «وقد أشهدت الله -سبحانه وتعالى- على ألا أحيد في جميع ما أقوله عن طريق الحق، وأن أفشي ما سمح به خاطري من الحكم باستحسان بعض أمور هذه البلاد وعوائدها، على حسب ما يقتضيه الحال، ومن المعلوم أنني لا أستحسن إلا ما لم يخالف نص الشريعة المحمدية».

وحتى لا يُتَّهم بالانسحاق وضياع الهوية يذكرنا بأنه: «كنا في زمن الخلفاء العباسيين أكمل سائر البلاد، تمدناً، ورفاهيةً، وتربيةً زاهرةً زاهيةً».

وأنه لأجل ذلك: «حكم الفرنجة بأن علماء الإسلام إنما يعرفون شريعتهم ولسانهم، أي ما يتعلق باللغة العربية، ولكنهم يعترفون لنا بأننا كنا أساتذتهم في سائر العلوم، وبقِدَمنا عليها».

ثم يكشف لنا عن هدف الوالي محمد علي من هذه البعثات فيقول: «ولعل هذا كله مطمح نظر (الوالي) في هذه الإرسالية وغيرها من الإرساليات المتتالية المتسلسلة فثمرة هذا السفر تحصل -إن شاء الله- بنشر هذه العلوم والفنون الآتية في الباب الثاني، وبكثرة تداولها، وترجمة كتبها وطبعها في مطابع ولي النعم. فينبغي لأهل العلم حث جميع الناس على الاشتغال بالعلوم والفنون، والصنائع النافعة».

ماذا جرى بعد ذلك لمشروع محمد علي الطموح هذا؟ وماذا بقي منه بعد رحيل مؤسسه؟ وكيف انتهت قفزة محمد علي الكبرى بعد ارتطامه بالقوى العظمى حينذاك بقيادة بريطانيا وروسيا وفرنسا والنمسا، ثم تقييد حلمه بوراثة الدولة العثمانية، تقييده بمعاهدة لندن الشهيرة... وكيف أثر عصر محمد علي لاحقاً على صناعة مصر الجديدة، بشراً وحجراً؟ فهذا حديث يطول ليس هذا مقامه. الحديث هنا عن كتاب مبكر بقلم شيخ مسلم تقليدي بعقل متفتح مستنير، عن فرنسا الأنوار في فجر ثورتها العالمية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد