: آخر تحديث

جدل «العظمة» الأمريكية

4
4
4

محمد خالد الأزعر

في خطاب التنصيب، عرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تصوراً نقدياً قاتماً لأحوال بلاده على الصعيدين الداخلي والخارجي. بدت الولايات المتحدة عنده وكأنها تعاني عجزاً وجموداً وتراجعاً في كل القطاعات، التعليم والصحة والتأمينات الاجتماعية والصناعة والزراعة ونظم الضرائب والتعريفات الجمركية.

فضلاً عن ابتزازها وتحميلها أعباء مالية دفاعية وأمنية من جانب الحلفاء، وحدودها المستباحة أمام الهجرة غير الشرعية وتجنيس الأجانب.

بعد هذه اللوحة المكفهرة، قدم ترامب نفسه بصفة المنقذ الذي سيجعل بلاده تحظى مجدداً بالهيبة والاحترام، لدرجة أنها ستصبح محل حسد من كل الأمم، وأكد أنه ينوي تطبيق شعار أمريكا أولاً.

وشأن أصحاب الرؤى الفوق تاريخية أضفى على حديثه مسحة روحية، حين ذكر أن الله أنقذه كي يعيد لأمريكا عظمتها مرة أخرى، ملمحاً بذلك إلى نجاته من محاولة الاغتيال أثناء حملته الانتخابية.

تقول التقاليد، إن المرشحين لمناصب سلطوية رفيعة عامة أو محلية عادة ما يصدرون وعوداً سخية، مستخدمين لغة تدغدغ عواطف الناخبين، وتستثير فيهم أحلام التغيير للأفضل، بيد أنه بمجرد انفضاض سامر الانتخابات.

وانكشاف المسافة بين الواقع والمأمول، أو بين الإمكانات والأهداف، يتم التخلي شيئاً فشيئاً عن أساليب الحشد والتعبئة المحلقين، والتعامل من خلال الحقائق المنظورة.

هذا التقليد اختفى تماماً تقريباً لدى نموذج ترامب، فخلال بضعة أيام لا أكثر من ولايته تبين للكل حجم التطابق المذهل بين مضامين خطابه الانتخابي وبين سياساته المشفوعة بالنفاذ والتطبيق.

لقد أغرق المجالين الداخلي والخارجي بعشرات القرارات التنفيذية، التي تؤكد أنه لم يكن يخادع أحداً، ولا كان يناور على أحد في حملته الانتخابية الصاخبة.

بقراراته وخطواته على الصعيد الخارجي بالذات، بدا ترامب كالوحش الجريح؛ الذي يضرب في كل الاتجاهات، بحساب وروية أحياناً، وبغير حساب ولا تدبر معمق في حالات كثيرة.

وفي هذا السياق طالت ضرباته، المشوبة في معظمها بوعيد التنكيل العاجل أو الآجل، مزيجاً من ذوي العلاقات والمراتب والمكانات والصلات بالولايات المتحدة، بما في ذلك جيران وأصدقاء وحلفاء ومنظمات دولية، علاوة بالطبع على المحسوبين ضمن المنافسين والأعداء.

يبرر ترامب هذا الاستنفار المستفز بالرغبة في استعادة عظمة بلاده، «الآخذة في التصدع»، فهل هذا صحيح؟ هل العظمة الأمريكية على ظهر الكوكب موضع شك وتهديد؟! أما عاد الناس يحسدون أمريكا على ما فيها من تقدم وترف ورخاء؟ أم أن الرجل يضمر ويخفي شيئاً آخر؟!

لحظة أن كان ترامب يولول، ويوشك أن يشق جيوبه، إشفاقاً على مكانة دولته وعظمتها المتداعية نحو الأفول، كانت هذه الدولة، بقاطنيها الذين لا يتعدون الـ4.2 % من سكان المعمورة، تملك أصولاً تزيد قيمتها على الـ30 تريليون دولار، وتستحوذ على أكثر من 25 % من الناتج الإجمالي العالمي، وأكثر من 10 % من التجارة الدولية.

ويشغل دولارها نحو 60 % من مجمل احتياطات البنوك المركزية، ويسيطر على 70 % من المعاملات الاقتصادية الدولية، وبها أكبر مراكز الأوراق المالية، وتمثل أكبر سوق استهلاكية على ظهر الأرض.

وتصدر وتستورد سلعاً وخدمات بنحو 7 تريليونات دولار سنوياً؛ ولها زهاء 835 من المكونات والقواعد العسكرية، المبثوثة في 80 دولة، وجيوشها هي الأقوى عالمياً لجهات التسلح التقليدي وغير التقليدي، والانتشار في البر والبحر والفضاء.

يعلم ترامب أن هذه المعطيات وغيرها من أسباب التقدم والريادة وقفت - وما زالت تقف - خلف عظمة دولته، وجعلت معظم الخلق ينظرون إليها بانبهار باعتبارها مثلاً حياً لـ«المدينة على جبل»، ولو لم تكن هذه الدولة في أقصى درجات العظمة والقوة.

فعلى أي شيء يستند الرجل في معاركه، الناعمة منها والخشنة، دون استثناء طموحات التوسع الإقليمي، التي يضطلع بها في الجهات الأربع؟! ما الذي يزوده بطاقة الحديث مع المحيط الدولي برمته تقريباً، بأساليب الإملاءات والضغوط ولي الأذرع؟!

أغلب الظن أن ترامب، بقناعاته الأيديولوجية والعقيدية وخلفيته المهنية، لا يتوخى استعادة عظمة دولته غير المنكورة بالفعل، وإنما يستهدف جعل «أمريكا فوق الجميع»، وهذا طريق محفوف بالمخاطر، التي قد تجبر آخرين كثيرين على اتخاذ إجراءات وقائية أو فعلية مضادة.

هناك مؤشرات تخرق العين على أن الفضاء الدولي يتجه سريعاً إلى هذه الإجراءات الصدامية، وقد لا يطول الوقت قبل أن نمسي بين حالة من اثنتين: أن يدرك ترامب مدى الخطأ في نهجه الاستقوائي.

وبالتداعي يستدرك لما يمكن أن يلحقه هذا النهج من أضرار عالمية، لن تنجو منها بلاده، أو أن يمضي الرجل في طريقته غير المثلى إلى أن يكتشف أنه كمن أطلق النار على قدميه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد