عماد الدين حسين
هل بدأت فرنسا التمرد على الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، ومحاولة حشد أوروبا من خلفها، وإذا كان الأمر صحيحاً فهل تنجح المحاولة، أم سيكون مصيرها على غرار كل المحاولات الفرنسية السابقة، منذ عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً مع الرئيس الأسبق شارل ديجول؟
مناسبة هذا السؤال ما صرح به رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا بايرو، يوم الاثنين 20 يناير، وقبل لحظات قليلة من حفل تنصيب ترامب في الكونجرس من أن «فرنسا والاتحاد الأوروبي قد يسحقان، بسبب سياسات ترامب الواضحة للجميع. الولايات المتحدة قررت اتباع سياسات مهيمنة على نحو لا يصدق من خلال الدولار، ومن خلال السياسات الصناعية، ومن خلال الاستيلاء على كل الأبحاث والاستثمارات، وإذا لم نفعل شيئاً فسوف نخضع جميعاً للهيمنة، ونتعرض للسحق والتهميش، والأمر في يدنا كوننا فرنسيين وأوروبيين لاستعادة زمام الأمور».
بايرو لا يرى التحدي أمام بلاده وأوروبا مقصوراً فقط على ترامب وسياساته، ولكنه يرى الصين تحدياً أساسياً أيضاً، خصوصاً أن قوتها الاقتصادية وصلت إلى أن فائضها التجاري تجاوز حاجز الألف مليار دولار في ديسمبر الماضي، وبالتالي فإن أوروبا تواجه تحديين: أمريكي وصيني.
ما قاله رئيس الوزراء الفرنسي ليس أمراً جديداً ومختلفاً عن السياسة الرسمية الفرنسية منذ حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لدى فرنسا مشكلة نفسية عميقة تشبه مع الفارق المشكلة البريطانية، فكلتا الدولتين كانت إمبراطورية كبرى، سيطرتا على معظم العالم لعقود طويلة، لكن شأن كل الإمبراطوريات الكبرى تراجعتا حتى صارتا دولتين متوسطتي القوة، بل وأحياناً دولتين عاديتين، لكن بريطانيا تكيفت مع الواقع الجديد، وتعتبر نفسها في مرات كثيرة الأخت الكبرى لأمريكا، في حين أن فرنسا، ورغم أنها عضو في حلف شمال الأطلنطي «الناتو» فإنها لا تحبذ سياسة الهيمنة الأمريكية على القارة الأوروبية، بل واتخذت العديد من السياسات المختلفة، ولا نقول المناوئة للسياسة الأمريكية، خصوصاً في الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، والتمايز عنها في قضايا عديدة مثل لبنان والصراع العربي - الإسرائيلي.
مرة أخرى هناك توترات في العلاقة بين فرنسا وأمريكا، منذ أن احتلت ألمانيا فرنسا في الحرب العالمية الثانية، ولم تتحرر إلا بالتدخل الأمريكي ضد ألمانيا، وحسم الحرب لصالح الحلفاء، بل إن بعض الباحثين يقولون: إن هناك صداماً ثقافياً مستمراً بين الدولتين، حيث تعتقد فرنسا أنها تملك قوة ناعمة أكبر بكثير من أمريكا، ومن العبارات المهمة للرئيس والجنرال الفرنسي الشهير شارل ديجول: «إنه من دون شعور الفرنسيين بأن بلادهم قوة عظمى؛ فإن فرنسا لن تكون فرنسا التي نعرفها»، ثم اضطرت فرنسا للانسحاب من الجزائر أوائل الستينيات، وتلك كانت تلك علامة النهاية على أفول الإمبراطورية الفرنسية.
أغلبية الرؤساء الفرنسيين، وآخرهم إيمانويل ماكرون طالبوا بتأسيس قوة عسكرية أوروبية مستقلة، بل إن فرنسا انسحبت من الجناح العسكري لحلف شمال الأطلنطي عام 1966 في عهد ديجول، الذي رفع شعار الأسس الثلاثة، ومنها الوطنية الفرنسية، وتشكيل قوة أوروبية مستقلة، لكن ذلك تعثر منذ ديغول وحتى ماكرون، والسبب أن القارة بأكملها لم تعد قادرة على الدفاع عن نفسها عسكرياً أمام روسيا أو اقتصادياً أمام الصين.
وجاء الغزو الروسي لأوكرانيا في 22 فبراير عام 2022، ليثبت أن القارة الأوروبية ليست قادرة بمفردها على التصدي للقوة العسكرية الروسية، بل إنها لم تكن قادرة على تزويد أوكرانيا بالذخائر والأسلحة الكافية، لتتمكن من الصمود أمام القوات الروسية.
في 25 أبريل من العام الماضي طالب ماكرون في خطاب شامل ألقاه في جامعة السوربون الدول الأوروبية بصياغة استراتيجية دفاعية أوروبية ذات مصداقية في مواجهة الصواريخ الروسية. ماكرون قال يومها: إن المخاطر العسكرية والاقتصادية قد تجعل «أوروبا تموت، وتتراجع أمام القوى العظمى الأخرى».
والمعنى الأخير مقصود به أمريكا، لأنه دعا إلى أوروبا قوية قادرة على فرض احترامها، وضمان أمنها، واستعادة استقلالها الاستراتيجي.
وحتى قبل ظهور التهديد الروسي في أوكرانيا فإن ماكرون دعا في 28 سبتمبر 2017 إلى تشكيل قوة تدخل عسكرية أوروبية مستقلة عن حلف الأطلنطي، خصوصاً أن القارة تواجه تحدياً مزدوجاً يتمثل في ضرورة فك الارتباط التدريجي والحتمي مع أمريكا، إضافة إلى التهديد الإرهابي. ووقتها لم يكن التهديد الاقتصادي الصيني واضحاً أمام ماكرون.
الدعوة لتشكيل قوة مستقلة كرره ماكرون أيضاً قبل نشوب الحرب الروسية - الأوكرانية، لكن نشوب الحرب كشف أنه لا يزال هناك وقت طويل حتى تستقل أوروبا عن الولايات المتحدة، بل هناك نظرية مؤامرة تقول إن واشنطن أغوت وأغرت وضللت روسيا، لتغرقها في «المستنقع الأوكراني»، حتى تجبر أوروبا أن تكون في حاجة دائمة لها، ما يعزز رأى أصحاب هذه النظرية أنه بعد الحرب أصبحت أوروبا تعتمد على الأسلحة الأمريكية بصورة مستمرة، وصارت مضطرة لشراء الغاز الأمريكي الغالي بديلاً للغاز الروسي الرخيص.
ومن المتوقع أن تزيد الأعباء على أوروبا مع عودة ترامب، الذي هدد بفرض رسوم جمركية على السلع الأوروبية بنسبة 20 %، ورفع نسبة مساهمتها في ميزانية الناتو بنسبة لا تقل عن 5 % من الناتج المحلى الإجمالي، وأن تدفع لأمريكا مقابل حمايتها عسكرياً، حتى لا تتركها فريسة سهلة أمام الدب الروسي الجائع!
السؤال أخيراً: هل تتمكن فرنسا من بلورة موقف أوروبي مستقل عن واشنطن، وإذا كانت قد فشلت في ذلك في سنوات كثيرة مضت، فهل تنجح في عهد ترامب الذي يرفع شعار أمريكا القوية أولاً؟!