ظاهرة زهران مَمداني، المرشح الديمقراطي لمنصب عمدة مدينة نيويورك، كبرى مدن أميركا وأعرقها، أيقظت الشارع الأميركي من سبات بدا في «عصر» دونالد ترمب سباتاً طويلاً...
من دون تعجّل الأمور، يجب الإقرار بأن الشاب الأفرو - آسيوي المسلم، الذي لا يتحرّج في وصف نفسه بأنه «اشتراكي»، لم يربح بعد سوى جولة واحدة.
جولة واحدة فقط... في حرب ضَروس تخوضها قوى الاعتدال و«التقدمية» في الديمقراطيات الغربية ضد صعود أقصى اليمين – بتياراته المحافظة والفاشية والعنصرية – في عموم أوروبا، وهيمنته على أكبر دولتين ديمقراطيتين في العالم... الهند والولايات المتحدة.
في هذه الصفحة كتبت، غير مرة، مقولة كنت قد سمعتها من أحد أساتذتي في الجامعة، مضمونها أنه إذا كان القرن الـ20 قرن الآيديولوجيا، فإن القرن الـ21 هو قرن التكنولوجيا. والقصد... أن التقدّم التكنولوجي الهائل كفيل، عملياً، بحل مختلف المشاكل المعيشية التي حفّزت البشر على استنباط أفكار ومقاربات حلول نظرية.
طبعاً لا نستطيع حالياً التبنّي المطلق، أو الرفض المطلق، لصحّة هذه المقولة. إذ إننا بالكاد اختتمنا الربع الأول من القرن الـ21، بينما تتسارع من حولنا التطورات التكنولوجية المذهلة... وبوتيرة مفزعة!
المُنجزات والاكتشافات التي كانت تُحسَب بالقرون والأجيال تتلاحق، صارت خلال أشهر لا سنوات.
وشكل العالم ككُل، ما عاد كما كان، ولن يكون كما هو... في خضمّ تسارُع تغيّرات الاقتصاد، وتتابُع الابتكارات، وتطوّر الوظائف والمهن ولادةً وموتاً، وتبلوُر القناعات والمصالح، واهتزاز تركيبة المجتمعات وتفاعلها، ودخول كيمياء السياسة ومنظومات القيَم حيّز المجهول الكبير...
بيئاتنا، كلّها، تترنّح اليوم فكرياً بين التطرّف والتطرّف المضاد، ومن الانعزال والتقوقع إلى سقوط الأسوار أمام الغزوات المبرّرة بأي ذريعة والمُستقوي بأي شيء!
باختصار، نحن الآن محكومون بعلامات الاستفهام. والعاقل منّا هو الذي لا يراهن على شيء، ولا يصدّق أي خطاب، ولا يجازف إزاء أي مشروع سياسي...
حتى في «الديمقراطيات الغربية»، التي لطالما عاشت مطمئنة إلى ثوابت كياناتنا - بعكس دولنا «الفتية» في «العالم الثالث» - يتغيّر كل شيء فجأة أمام أعيننا وأعين مواطني تلك الديمقراطيات.
مفهوم «الدولة الأمة» تهدّده السياسات الشعبوية والعنصرية، وهو الذي بدا وكأنه ترسّخ وتحصّن بعد انتهاء «الحرب الباردة». فـ«الحرب الأوكرانية» أيقظت هواجس مخيفة في أوروبا حيال قوة ما زالت تحنّ إلى أيام «القياصرة» و«رايات الكرملين الحمراء».
وخروج بريطانيا من أسرة «الاتحاد الأوروبي» بضربات معاول اليمين الانعزالي المتطرف يهدد حالياً مكانتي حزبي السلطة الكبيرين، حزب المحافظين وحزب العمال، لصالح قوة انعزالية شبه فاشية صاعدة. وفي المقابل، تلوح إمكانية استعادة اليسار العمالي بريقه بالتوازي مع تراجع صدقية الحكومة العمالية الحالية. وهذا الوضع في بريطانيا ينسجم مع ما تشهده غالبية دول أوروبا الغربية، من تراجع لقوى اليمين المعتدل واليسار المعتدل... مقابل صعود اليمين المتشدد – وبدرجة أقل – تقدّم اليسار المتشدد!
هذا هو حال فرنسا مع يمين مارين لوبن، ويسار جان لوك ميلانشون، وألمانيا مع تزايد شعبية حزب «البديل لألمانيا». وأيضاً، الحال في إيطاليا حيث تحكم جورجيا ميلوني على رأس «إخوان إيطاليا»، والبرتغال وإسبانيا حيث يستنهض غُلاة حزبي «شيغا» البرتغالي و«فوكس» الإسباني اليمينيين المتطرفين أيام النظامين الفاشيين اللذين فرضهما لعقود عديدة الديكتاتوران، أنطونيو سالازار وفرنسيسكو فرنكو!
هنا، أمام الخط البياني التصاعدي لليمين المتطرف، يفقد اليسار التقليدي المعتدل روحه وقدرته على التصدّي. وحقاً، هذا الواقع غير مفاجئ أبداً... عندما يغدو أقصى طموح القوى المناوئة لليمين المتطرف بناء تحالفات ظرفية هشة، ضعيفة الصدقية، وعديمة المبادئ والبرامج.
نعم، كل ما فعله اليسار الغربي المعتدل الهروب من المصارحة، وشراء الوقت بالكلام الباهت، ومحاولة احتواء زخم اليمين المتطرف - المتحمّس لقضاياه إلى حد إلغاء الخصوم - فكانت النتيجة أن صار هذا اليمين القوة التي تفرض «أجندتها» وأولوياتها على الساحة السياسية.
بالمناسبة، في بريطانيا، تمكّن حزب «الإصلاح» اليميني المتطرف من التقدّم على حزب العمال الحاكم في أحدث استطلاعات الرأي قبل أيام. وفي هذا رسالة بليغة وتحذير خطير لحزب ضحّى بأهم مبادئه طمعاً بإرضاء «لوبيات» نفوذ ومال، وسعياً وراء توسيع «قاعدة جذب» المؤقت، في وجه قوة شعبوية لا تتردّد في ركوب أي موجة.
في الولايات المتحدة، أيضاً، أخطأ الحزب الديمقراطي كثيراً وتأخر كثيراً... وتاجر بالشعارات كثيراً.
لقد كان الديمقراطيون يعرفون جيداً طبيعة المعركة الرئاسية التي خاضوها في المرة الأولى عام 2016 ضد دونالد ترمب وقاعدته الشعبوية «ماغا» (إعادة العظمة لأميركا من جديد)، لكنهم ارتكبوا خطيئتين:
الأولى، إساءة تقدير «القدرة التجييشية» لليمين المتطرف المُعادي للمهاجرين في أوسط فئات العمالة غير الماهرة ومناطق الصناعات التقليدية المتقادمة.
والثانية، إهمال الجانب المطلبي للمعركة. وهو الأمر الذي تنبّه له المرشح اليساري السيناتور بيرني ساندرز، فحاول اجتذاب الناقمين من هذه الفئات العمالية وإعادتها إلى بيئة الديمقراطيين بدلاً من تركها لقمة سائغة لـ«ماغا» وترمب.
خطأ الديمقراطيين تكرّر، وبصورة أبشع، في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، عندما أدت مواقف إدارة جو بايدن، الداعمة كلياً لبنيامين نتنياهو في «حرب غزة»، إلى إفقاد المرشحة الرئاسية كامالا هاريس عشرات الآلاف من أصوات اليسار والمسلمين والعرب في ولايات محورية... كان بالإمكان نظرياً كسبها.
زهران ممداني، قد يفوز في الخريف المقبل أو لا يفوز بعمودية نيويورك، المعقل اليهودي الأول في أميركا، إلا أنه أثبت لحزبه أنه لا يستطيع الفوز من دون مبادئ صريحة، مهما كانت المخاطرة كبيرة.
لقد أدرك ممداني أن الناس في نيويورك لديها أزمات معيشية حادة تنتظر الحلول... لا الشعارات التي يرفعها «تجار» الشعارات وأزلام «لوبيات» المصالح الخارجية والداخلية... وتروّج لها «فوكس نيوز» ومثيلاتها!
حتى في «قرن التكنولوجيا» والعوالم الافتراضية، سيظل الناس بحاجة إلى الخبز والوظيفة والدواء وفرص العمل وضمان الشيخوخة.