: آخر تحديث
"ابنته الروحية" تفتح صفحات مطوية عنها:

ميخائيل نعيمه ...السنوات العشرون الأخيرة من حياته

12
10
9

ولد الكاتب والأديب اللبناني ميخائيل نعيمه في بلدة "بسكتنا" الواقعة على سفح جبل صنين، سنة 1889، وتوفي في بلدة "الزلقا" الساحلية سنة 1988. تلقى دروسه الابتدائية في المدرسة الروسية في "بسكنتا"، ثم سافر إلى فلسطين، وهو في الثالثة عشرة من العمر، للدراسة في "دار المعلمين الروسية" في الناصرة، وهناك أظهر تفوقا، أهلّه للسفر إلى روسيا القيصرية، زمن القيصر نقولا الثاني، للدراسة في مدينة پولتافا الأوكرانية، على نفقة "الجمعية الإمبراطورية الروسية الفلسطينية". في العام 1911 سافر إلى الولايات المتحدة لدراسة القانون في جامعة "سياتل"، بعدها بخمس سنوات، وتحديداً في العام 1916، رحل إلى نيويورك، أو"الدردر الرهيب" كما سماها في سيرته "سبعون"، بتشجيع من نسيب عريضة، الشاعر الحمصي المقيم في نيويورك، ناشر مجلة "الفنون"، ورفيق نعيمه زمن الدراسة في الناصرة. في نيويورك تعرف الشاب ميخائيل، البالغ من العمر27 سنة، إلى جبران خليل جبران، وشارك مع مجموعة أدباء من سوريا ولبنان، ومنهم جبران، في تأسيس عصبة أدبية عرفت في ما بعد، باسم "الرابطة القلمية". رحل جبران عام 1931 وهو في الثامنة والأربعين من العمر، وقبل رحيله بزمن قصير، كانت "الفنون" قد توقفت عن الصدور، وانفرط عقد الرابطة القلمية، وشعر أعضاؤها بالفراغ، وأولهم نعيمه الذي كان عازباً، فودع أميركا وعاد بحراً إلى لبنان سنة 1932، وهو في الرابعة والأربعين من العمر، وسكن في مسقط رأسه "بسكنتا"، معاوناً لوالده يوسف نعيمه في الزرع والحصاد، ومنصرفا إلى الكتابة والتفكير والتأمل في معاني الحياة والموت والوجود والخلود، وهي الهموم التي شغلته، كما شغلت جبران من قبله. كتب نعيمه في العربية والروسية والإنكليزية، ووضع نحو 35 كتاباً، أهمها "كتاب مرداد"، وأجملها كتابه عن "جبران ". عاش نعيمة 99 سنة، وحين بلغ السبعين منها، وضع سيرته الذاتية وسماها "سبعون"، وقسمها ثلاث مراحل؛ الأولى من يوم ولادته عام 1889 إلى العام 1911، وكانت بين "بسكتنا" والناصرة وأوكرانيا، والثانية مرحلة الاغتراب إلى الولايات المتحدة، وامتدت من سنة 1911 إلى سنة 1932، والثالثة الأخيرة، بعد عودته إلى لبنان، وامتدت من سنة 1932، إلى يوم رحيله، في 28 شباط 1988. 
بين التاسعة والتسعين سنة التي عاشها نعيمه، وتاريخ سيرته الذاتية "سبعون"، فترة زمنية طويلة (29 سنة) لم يؤرخها نعيمه كما فعل في "سبعون"، ولا أرخها أحد من بعده، وبقيت مطوية مجهولة. من هذه الفترة، تسع سنوات أمضاها في "بسكنتا"، وأما العشرون الباقيات فأمضاها على الساحل؛ ثلاث منها في بلدة "الجْدَيْدة"، والفترة الباقية (17 سنة) في شقة في "الزلقا" برعاية مي نعيمه، ابنة أخيه نجيب، ومعهما ابنتها الصغيرة سُهى. وإذا كان هناك في العالم اليوم، من يُمكن الركون إليه، لمعرفة كيف كانت يوميات نعيمه في السنوات العشرين الأخيرة من حياته، فهو "ابنته الروحية" سُهى، وكنيتها في  شهادة الميلاد "حداد"، لكنها تُوُثر أن تنتسب إلى عائلة أمها من آل نعيمه، وتدعى سُهى نعيمه، وإذا كان هناك من يستحق أن يكون "نعيمياً" قبل غيره، لا برابطة الدم وحدها، بل بالجهد الذي ما بعده جهد، فهو هذه الشابة، التي لفرط حبها لميخائيل نعيمه، أو "جِدّو مخايل"، كما يحلو لها أن تدعوه، حولت شقتها في بلدة "المطيلب" بمنطقة المتن الشمالي، إلى متحف مفتوح، يضم مقتنيات نعيمه، وأوراقه وكتبه ورسائله، وما ترك من أثاث وأغراض خاصة وعاديات، تحافظ عليها و تهتم بها اهتمامها بروحها، مهمة تتطلب جهود مجموعة من البشر، لكن سُهى تقوم بها بمفردها، دون مِنّة من أحد، أو مساعدة من وزارة الثقافة اللبنانية، أو رعاية معنوية من حكومة لبنانية، كان يتعين عليها أن تقوم بهذه الجهود، حفاظاً على تراث كاتب لبناني عظيم، يندر أن يجود الشرق العربي بمثله، لكن سُهى تعرف، وكلنا يعرف أن "جمهورية الجحود" هذه، التي اسمها لبنان، لا تعبأ بمثل هذه الأمور، ولا تعتبرها من الأولويات، همها أن تحافظ على تراث السياسيين، وألقابهم، وألقاب من يخلفهم على الكراسي من أبناء وأحفاد!
يدفعني الفضول، ويدفع كل من قرأ نعيمه، وأحب أدبه وفكره وفلسفته، إلى أن يعرف كيف كانت حياة هذا الأديب بعد السبعين. أتواصل مع سهى نعيمه، الأستاذة في جامعة "هايكازيان" في بيروت بالهاتف والبريد، وأطلب إليها أن تحدثني عن "جدها مخايل"، هي التي لازمته طفلة وصبية، وابدأ بسؤال عن الموسيقى التي كان يحب، فتجيب" "كان نعيمه يحبّ الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة، والفنانين الكلاسيكيين اللبنانيين، منهم "الأخوين رحباني" وفيروز وصباح، ووديع الصافي ونصري شمس الدين، ومن الكلاسيكيين العرب، كان يحب عبد الوهاب وأم كلثوم، لكنه في الغالب، كان يترك أذنيه للصمت، ويعتبر الصمت أجمل موسيقى". أسالها مجدداَ: هل ندم لأنه لم يتزوج؟ تجيب:" لم يظهر عليه شيء من ندم، وهو القائل عن الزواج في كتابه "مذكّرات الأرقش" إنه "مقبرة الحبّ". كان نعيمه يجلّ القلم، ويجِلّ الكلمة "الوليمة" وفق تعبيره، وكان لديه يقين، بأنّ المرأة والقلم لا ينسجمان، لأن كل واحد منهما سوف يستهلك الآخر". 
كانت لنعيمه نظرة خاصة في الوجود والعدم، وكان يؤمن بأن الموت ولادة أخرى، وأنه والحياة توأمان، حسبما جاء من كلام "المسيح": "الحق الحق أقول لكم، إن حبة الحنطة التي تقع على الأرض، إن لم تمت، بقيت لوحدها وإن ماتت أتت بثمر كثير". يدفعني الفضول أيضاً لمعرفة كيف كانت حياة نعيمه مع "تبي الجليل"، هو الذي وضع عنه كتاباً عنوانه "من وحي المسيح"، وما إذا كان يتردد إلى الكنيسة، وبأي منظور كان يرى "الله". أسال سهى فتجيب: "حين عاد نعيمه من الولايات المتحدة، بدأ يساعد "خوري الضيعة" في خدمة القدّاس، لما كانت هذه المراسم نثير في نفسه من ذكريات الطفولة الطيّبة، لكنّ سرعان ما لمس في طقوس القدّاس، كما في طقوس العبادات الأُخرى، طغيان العادات والتقاليد على الإيمان الواعي، فتخلى عن ذلك التقليد. أما المسيح فلم يكن إيمانه به تقليدياً، وكان عشقه وإيمانه على طريقته التي لا تنصاع إلى تعاليم الكنيسة. آمن نعيمه بأنّ الإنسان هو ابن الله، كما المسيح الذي استطاع أن يتغلبَ على العالم، بتغلّبه على ما في ذاته الصغرى من شهوات، وهذا التغلّب مصدره الألوهية الكاملة الكامنة فيه، كما هي (هذه الألوهة) كامنة في كلّ إنسان، يعيَها ويختبرها عبر دورات متعددة من الموت والولادة، لتنقية ذاته من شوائبها، وأوهامها الحسّيّة، وصولاً إلى الذات الإلهيّة العليا. اما الله فكان عنده خالق الكلّ، المُحرّك الكلّ الذي لا يتغيّر ولا يتحوّل، ومنه كلّ شيء وإليه كلّ شيء. كان يؤمن بأن الإنسان، من الأزل وإلى الأبد، يأتي من مصدر واحد هو الله، الذي منه كلّ وجود وإليه كلّ وجود، وما اختلاف الأديان في نظره، إلّا اختلاف أوجه لعبادة الله، وما دام طريق هذه الديانة أو تلك هي الوصول إلى الله، ففي الديانات كلها خير وبركة، وفي كتابه "مذكّرات الأرقش" يقول: "لو أن البشر عرفوا الله لما قسّموه إلى عبراني ومسيحي ومسلم وبوذي ووثني، وقاسوه ما لا يُقاس بمقاييس بشريّة أرضيّة". 
- هل اتفق أن قال لكما، أنت ووالدتك مي، انه سوف يلتقيكما في حياة أخرى؟
"لم نتكلّم قطّ عن حياة تجمعنا في الغد، لكنّنا تكلّمنا عن حياة تجمعنا أبداً. آمن نعيمه بأنني ابنته الروحيّة التي لم تأت من جسده، إنّما باركته بها الحياة، وكأنّني هدية من الله تؤكد له حُسن مساره، بما قدّمه للحياة من عفّة وترفّع عن الملذّات الجسديّة، ومنها غريزة الجنس والتناسل التي أعرضَ عنها خلال سنواته الأخيرة في الولايات المتحدة الأميركيّة.  فهو، من يوم عودته إلى ربوع "بسكنتا" و "الشخروب"، صام عن شهوة الجنس، ولم يعرف المرأة كجسد، وختم أيامه الأرضيّة بهذه القناعة. كان يؤمن بان جسد المرأة هو أتفه ما فيها، وانّ قدرتها على العطاء والحنان والمحبّة أهمّ بكثير من جسدها. أعود إلى سؤالك: لطالما اعتبرنا، نحن الثلاثة (جدّو ميشا والماما وأنا) بأنّنا كنّا معاً في حياة سابقة، وسنبقى معاً إلى مدى الدهر، وأنّ لقاءنا على الأرض ليس عبثاً، إنّما لسبب كامن في إرادة الله".
- هل كان يتحسر على شيء معين؟
"كان سالما إلى أبعد الحدود، ومستسْلماً بشكل كلّي للإرادة الكونيّة التي رسمت دروب حياته، وكان قد حوّل المصاعب إلى نِعَم، تدلّه على طريق نورانية آمن بها قبْل أن يدركها. لذلك، لم يكن يتحسّر على شيء، لأن كل شيء في نظره كان من الإرادة الكونيّة التي لا محبّة تفوق محبّتها، ولا دلالة بعد دلالتها، وفي "كتاب مرداد" يقول: "رُبّانك الله، سيري فلْك مرداد."
- هل اتفق أن قال لكما شيئا عن جبران، لم ينشره في كتبه أو يذيعه في الناس؟
"تشاركنا، جدّو ميشا وأنا وأمي التي كان يلقبها بملاكه الحارس، في الحديث عن أمور خاصة بجبران، ولسْتُ أدري ما أقول عنها. هل أنشرها أو أبقيها طيّ الكتمان؟  اخترْت أن أبقيها طيّ الكتمان، بعد أن وجدت أن ذلك هو الخيار الأنسب".
من كان الصديق المقرب إليه في سنواته الأخيرة؟
" صديقه إميل جبر ضومط، كان يتردّد إلى منزلنا في "الزلقا" مرات كثيرة، كذلك الزائر الدائم الدكتور نديم نعيمه، كما بعض الباحثين في فكر نعيمه وفلسفته أمثال د. متري بولس، ومجموعة واسعة من الأصدقاء والمفكّرين وعامّة الناس. أذكر أن كمال جنبلاط، وشارل مالك، والأديبة إميلي نصرلله كانوا يزوروننا، ولا تزال كتب هؤلاء وإهداءاتهم موجودة في مكتبة نعيمه التي انتقلَت معي من منزلنا في "الزلقا" إلى متحف ميخائيل نعيمه "ميماسونا" في "المْطَيْلبْ"، والاسم "ميماسونا" هو الحروف الأولى من ميخائيل ومي وسهى نعيمه".
- هل كان يشرب الكحول أو القهوة أو الشاي؟
- "في سنواته الأخيرة، التي شهدتها بنفسي ضمن عائلتنا الواحدة، كنت أراه يحتسي دمعة يوميّة من الويسكي، لم يكن يكملها، وكان يتناول معها الفستق الحلبي تفقّيه له أمّي، وحبات من "القضامي الصفرا" التي كان يحبّها. أما القهوة أو الشاي فكان يشربهما ليُساير بعض الزوّار، لكنّه لم يكن يطلبْها".
- هل عانى من أمراض معينة؟
" لم يكن يعاني من أي مرض، لكنه أصيب في أيامه الأخيرة بالتهاب الرئة، فوصف له الطبيب المضادات الحيويّة، لكنّ عمره لم يسعفه، وجسمه النحيل لم يعد يقوى على النهوض، إلى أن جاءت لحظة الوداع، عند الساعة العاشرة والثلث، من مساء 28 شباط 1988 ".
- هل كان يدخن؟
"كان يدخن السيجارة، وبقي يدخنها حتى اللحظة الأخيرة من حياته".
- هل كان يشاهد التلفزيون؟
- "اتذكره يشاهد الأخبار، ويشاركني مشاهداتي التلفزيونيّة ويشاهد معي "أبو ملحم" وأفلام "طُم أند جيري" الكرتونية، ويفرح لفرحي بها. كنت أفرح به صديقا، يشاهد معي ما أحبّه".
- من كان يعجبه من رجال السياسة العرب والأجانب؟
"كلّ الأمجاد الأرضيّة في نظر نعيمة لم تكن شيئاً. كلها إلى زوال، وما يبتدئ في مكان ما، ينتهي في مكان ما، وهذه عنده كانت حال السياسة والسياسيين؛ أمجاد وأطماع لفترة، لا تلبث أن تخبو وكلها عابر، لا يمثل الحقّ الأقدس للإنسان، وما فيه من روح الله".
- بمن تأثر من الكتاب؟
" كان تاثير العظماء الروس أمثال تولستوي ودوستيفسكي وبوشكن وليرمنتوف، بعيداً وعميقاً في حياته الأدبيّة. تأثر ايضاً بالمتسامين الأميركيين The transcendentalists، أمثال أمرسن، وهنري دايفيد ثورو، وكانت له قراءات متفرّقة متعمّقة لكبار المفكّرين الألمان والفرنسيين وغيرهم. كان نعيمة واسع الاطلاع وكثيف المعرفة".
- كم سنة أمضيت معه، وكم سنة أمضت أمك معه وكيف كان وقع رحيله عليكماّ؟
"أمضيت معه عشرين سنة، هي السنوات العشرون الأولى من حياتي، والسنوات العشرون الأخيرة من حياته، وحتى اليوم لا يزال هو رفيقي الدائم. عندما عاد من مهجره الأميركيّ كانت أمّي طفلة. اختار السكن مع عائلة أخيه نجيب (والد أمي) الذي كان يصغره بإحدى عشرة سنة، فكان قدر أمي أن تعرف عمّها من لحظة وصوله إلى "بسكنتا " عائداً من أميركا، في أيار من سنة 1932، إلى يوم رحيله في "الزلقا".  تسألني عن وقع رحيله علينا؟ كان شديداً وأحدث فراغا ليس بمقدوري وصفه، وبعد 26 سنة من رحيله، وتحديداً في 15 كانون الثاني من سنة 2014، لحقت أمي بعمها، وكانت الساعة الرابعة فجراً، والسماء صافية والقمر بدر".
- ما سبب نزوله من "بسكتنا" إلى "الزلقا"؟
- زواج ميّ وانفصالها عن زوجها فوزي حداد، وانتقالها إلى المنزل الذي أمّنه لها عمها مخايل، الذي كان بمنزلة والدها الروحي، هو أحد الأسباب لنزوله من "بسكنتا" إلى "الجْدَيْدة" ثمّ إلى "الزلقا". من الأسباب ايضاً، أشغاله الكثيرة مع دور النشر في بيروت، وحرصه على أن يبقى بعيداَ عن "بسكنتا" في أشهر الشتاء القارس، لكن بقينا، بعد انتهاء فصولي الدراسية كل سنة، نمضي الصيف في "بسكنتا"، ما عدا الصيف الأخير من حياة نعيمة، فقد اختار أن يمضيه في منزله في "الزلقا"، وبعد رحيل والدتي، نقلتُ ما في البيت من أثاث وأغراض خاصة، إلى منزلي في بلدة "المْطيْلبْ"، وأصبح متحفاً خاصاً لميخائيل نعيمه، يوثّق صفحات غنية من كتاب حياته، ومن بينها السنوات العشرون الأخيرة ".
"ابنته الروحية" تفتح صفحات مطوية عنها:
ميخائيل نعيمه ...السنوات العشرون الأخيرة من حياته

رؤوف قبيسي:
ولد الكاتب والأديب اللبناني ميخائيل نعيمه في بلدة "بسكتنا" الواقعة على سفح جبل صنين، سنة 1889، وتوفي في بلدة "الزلقا" الساحلية سنة 1988. تلقى دروسه الابتدائية في المدرسة الروسية في "بسكنتا"، ثم سافر إلى فلسطين، وهو في الثالثة عشرة من العمر، للدراسة في "دار المعلمين الروسية" في الناصرة، وهناك أظهر تفوقا، أهلّه للسفر إلى روسيا القيصرية، زمن القيصر نقولا الثاني، للدراسة في مدينة پولتافا الأوكرانية، على نفقة "الجمعية الإمبراطورية الروسية الفلسطينية". في العام 1911 سافر إلى الولايات المتحدة لدراسة القانون في جامعة "سياتل"، بعدها بخمس سنوات، وتحديداً في العام 1916، رحل إلى نيويورك، أو"الدردر الرهيب" كما سماها في سيرته "سبعون"، بتشجيع من نسيب عريضة، الشاعر الحمصي المقيم في نيويورك، ناشر مجلة "الفنون"، ورفيق نعيمه زمن الدراسة في الناصرة. في نيويورك تعرف الشاب ميخائيل، البالغ من العمر27 سنة، إلى جبران خليل جبران، وشارك مع مجموعة أدباء من سوريا ولبنان، ومنهم جبران، في تأسيس عصبة أدبية عرفت في ما بعد، باسم "الرابطة القلمية". رحل جبران عام 1931 وهو في الثامنة والأربعين من العمر، وقبل رحيله بزمن قصير، كانت "الفنون" قد توقفت عن الصدور، وانفرط عقد الرابطة القلمية، وشعر أعضاؤها بالفراغ، وأولهم نعيمه الذي كان عازباً، فودع أميركا وعاد بحراً إلى لبنان سنة 1932، وهو في الرابعة والأربعين من العمر، وسكن في مسقط رأسه "بسكنتا"، معاوناً لوالده يوسف نعيمه في الزرع والحصاد، ومنصرفا إلى الكتابة والتفكير والتأمل في معاني الحياة والموت والوجود والخلود، وهي الهموم التي شغلته، كما شغلت جبران من قبله. كتب نعيمه في العربية والروسية والإنكليزية، ووضع نحو 35 كتاباً، أهمها "كتاب مرداد"، وأجملها كتابه عن "جبران ". عاش نعيمة 99 سنة، وحين بلغ السبعين منها، وضع سيرته الذاتية وسماها "سبعون"، وقسمها ثلاث مراحل؛ الأولى من يوم ولادته عام 1889 إلى العام 1911، وكانت بين "بسكتنا" والناصرة وأوكرانيا، والثانية مرحلة الاغتراب إلى الولايات المتحدة، وامتدت من سنة 1911 إلى سنة 1932، والثالثة الأخيرة، بعد عودته إلى لبنان، وامتدت من سنة 1932، إلى يوم رحيله، في 28 شباط 1988. 
بين التاسعة والتسعين سنة التي عاشها نعيمه، وتاريخ سيرته الذاتية "سبعون"، فترة زمنية طويلة (29 سنة) لم يؤرخها نعيمه كما فعل في "سبعون"، ولا أرخها أحد من بعده، وبقيت مطوية مجهولة. من هذه الفترة، تسع سنوات أمضاها في "بسكنتا"، وأما العشرون الباقيات فأمضاها على الساحل؛ ثلاث منها في بلدة "الجْدَيْدة"، والفترة الباقية (17 سنة) في شقة في "الزلقا" برعاية مي نعيمه، ابنة أخيه نجيب، ومعهما ابنتها الصغيرة سُهى. وإذا كان هناك في العالم اليوم، من يُمكن الركون إليه، لمعرفة كيف كانت يوميات نعيمه في السنوات العشرين الأخيرة من حياته، فهو "ابنته الروحية" سُهى، وكنيتها في  شهادة الميلاد "حداد"، لكنها تُوُثر أن تنتسب إلى عائلة أمها من آل نعيمه، وتدعى سُهى نعيمه، وإذا كان هناك من يستحق أن يكون "نعيمياً" قبل غيره، لا برابطة الدم وحدها، بل بالجهد الذي ما بعده جهد، فهو هذه الشابة، التي لفرط حبها لميخائيل نعيمه، أو "جِدّو مخايل"، كما يحلو لها أن تدعوه، حولت شقتها في بلدة "المطيلب" بمنطقة المتن الشمالي، إلى متحف مفتوح، يضم مقتنيات نعيمه، وأوراقه وكتبه ورسائله، وما ترك من أثاث وأغراض خاصة وعاديات، تحافظ عليها و تهتم بها اهتمامها بروحها، مهمة تتطلب جهود مجموعة من البشر، لكن سُهى تقوم بها بمفردها، دون مِنّة من أحد، أو مساعدة من وزارة الثقافة اللبنانية، أو رعاية معنوية من حكومة لبنانية، كان يتعين عليها أن تقوم بهذه الجهود، حفاظاً على تراث كاتب لبناني عظيم، يندر أن يجود الشرق العربي بمثله، لكن سُهى تعرف، وكلنا يعرف أن "جمهورية الجحود" هذه، التي اسمها لبنان، لا تعبأ بمثل هذه الأمور، ولا تعتبرها من الأولويات، همها أن تحافظ على تراث السياسيين، وألقابهم، وألقاب من يخلفهم على الكراسي من أبناء وأحفاد!
يدفعني الفضول، ويدفع كل من قرأ نعيمه، وأحب أدبه وفكره وفلسفته، إلى أن يعرف كيف كانت حياة هذا الأديب بعد السبعين. أتواصل مع سهى نعيمه، الأستاذة في جامعة "هايكازيان" في بيروت بالهاتف والبريد، وأطلب إليها أن تحدثني عن "جدها مخايل"، هي التي لازمته طفلة وصبية، وابدأ بسؤال عن الموسيقى التي كان يحب، فتجيب" "كان نعيمه يحبّ الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة، والفنانين الكلاسيكيين اللبنانيين، منهم "الأخوين رحباني" وفيروز وصباح، ووديع الصافي ونصري شمس الدين، ومن الكلاسيكيين العرب، كان يحب عبد الوهاب وأم كلثوم، لكنه في الغالب، كان يترك أذنيه للصمت، ويعتبر الصمت أجمل موسيقى". أسالها مجدداَ: هل ندم لأنه لم يتزوج؟ تجيب:" لم يظهر عليه شيء من ندم، وهو القائل عن الزواج في كتابه "مذكّرات الأرقش" إنه "مقبرة الحبّ". كان نعيمه يجلّ القلم، ويجِلّ الكلمة "الوليمة" وفق تعبيره، وكان لديه يقين، بأنّ المرأة والقلم لا ينسجمان، لأن كل واحد منهما سوف يستهلك الآخر". 
كانت لنعيمه نظرة خاصة في الوجود والعدم، وكان يؤمن بأن الموت ولادة أخرى، وأنه والحياة توأمان، حسبما جاء من كلام "المسيح": "الحق الحق أقول لكم، إن حبة الحنطة التي تقع على الأرض، إن لم تمت، بقيت لوحدها وإن ماتت أتت بثمر كثير". يدفعني الفضول أيضاً لمعرفة كيف كانت حياة نعيمه مع "تبي الجليل"، هو الذي وضع عنه كتاباً عنوانه "من وحي المسيح"، وما إذا كان يتردد إلى الكنيسة، وبأي منظور كان يرى "الله". أسال سهى فتجيب: "حين عاد نعيمه من الولايات المتحدة، بدأ يساعد "خوري الضيعة" في خدمة القدّاس، لما كانت هذه المراسم نثير في نفسه من ذكريات الطفولة الطيّبة، لكنّ سرعان ما لمس في طقوس القدّاس، كما في طقوس العبادات الأُخرى، طغيان العادات والتقاليد على الإيمان الواعي، فتخلى عن ذلك التقليد. أما المسيح فلم يكن إيمانه به تقليدياً، وكان عشقه وإيمانه على طريقته التي لا تنصاع إلى تعاليم الكنيسة. آمن نعيمه بأنّ الإنسان هو ابن الله، كما المسيح الذي استطاع أن يتغلبَ على العالم، بتغلّبه على ما في ذاته الصغرى من شهوات، وهذا التغلّب مصدره الألوهية الكاملة الكامنة فيه، كما هي (هذه الألوهة) كامنة في كلّ إنسان، يعيَها ويختبرها عبر دورات متعددة من الموت والولادة، لتنقية ذاته من شوائبها، وأوهامها الحسّيّة، وصولاً إلى الذات الإلهيّة العليا. اما الله فكان عنده خالق الكلّ، المُحرّك الكلّ الذي لا يتغيّر ولا يتحوّل، ومنه كلّ شيء وإليه كلّ شيء. كان يؤمن بأن الإنسان، من الأزل وإلى الأبد، يأتي من مصدر واحد هو الله، الذي منه كلّ وجود وإليه كلّ وجود، وما اختلاف الأديان في نظره، إلّا اختلاف أوجه لعبادة الله، وما دام طريق هذه الديانة أو تلك هي الوصول إلى الله، ففي الديانات كلها خير وبركة، وفي كتابه "مذكّرات الأرقش" يقول: "لو أن البشر عرفوا الله لما قسّموه إلى عبراني ومسيحي ومسلم وبوذي ووثني، وقاسوه ما لا يُقاس بمقاييس بشريّة أرضيّة". 
- هل اتفق أن قال لكما، أنت ووالدتك مي، انه سوف يلتقيكما في حياة أخرى؟
"لم نتكلّم قطّ عن حياة تجمعنا في الغد، لكنّنا تكلّمنا عن حياة تجمعنا أبداً. آمن نعيمه بأنني ابنته الروحيّة التي لم تأت من جسده، إنّما باركته بها الحياة، وكأنّني هدية من الله تؤكد له حُسن مساره، بما قدّمه للحياة من عفّة وترفّع عن الملذّات الجسديّة، ومنها غريزة الجنس والتناسل التي أعرضَ عنها خلال سنواته الأخيرة في الولايات المتحدة الأميركيّة.  فهو، من يوم عودته إلى ربوع "بسكنتا" و "الشخروب"، صام عن شهوة الجنس، ولم يعرف المرأة كجسد، وختم أيامه الأرضيّة بهذه القناعة. كان يؤمن بان جسد المرأة هو أتفه ما فيها، وانّ قدرتها على العطاء والحنان والمحبّة أهمّ بكثير من جسدها. أعود إلى سؤالك: لطالما اعتبرنا، نحن الثلاثة (جدّو ميشا والماما وأنا) بأنّنا كنّا معاً في حياة سابقة، وسنبقى معاً إلى مدى الدهر، وأنّ لقاءنا على الأرض ليس عبثاً، إنّما لسبب كامن في إرادة الله".
- هل كان يتحسر على شيء معين؟
"كان سالما إلى أبعد الحدود، ومستسْلماً بشكل كلّي للإرادة الكونيّة التي رسمت دروب حياته، وكان قد حوّل المصاعب إلى نِعَم، تدلّه على طريق نورانية آمن بها قبْل أن يدركها. لذلك، لم يكن يتحسّر على شيء، لأن كل شيء في نظره كان من الإرادة الكونيّة التي لا محبّة تفوق محبّتها، ولا دلالة بعد دلالتها، وفي "كتاب مرداد" يقول: "رُبّانك الله، سيري فلْك مرداد."
- هل اتفق أن قال لكما شيئا عن جبران، لم ينشره في كتبه أو يذيعه في الناس؟
"تشاركنا، جدّو ميشا وأنا وأمي التي كان يلقبها بملاكه الحارس، في الحديث عن أمور خاصة بجبران، ولسْتُ أدري ما أقول عنها. هل أنشرها أو أبقيها طيّ الكتمان؟  اخترْت أن أبقيها طيّ الكتمان، بعد أن وجدت أن ذلك هو الخيار الأنسب".
من كان الصديق المقرب إليه في سنواته الأخيرة؟
" صديقه إميل جبر ضومط، كان يتردّد إلى منزلنا في "الزلقا" مرات كثيرة، كما بعض الباحثين في فكر نعيمه وفلسفته أمثال د. متري بولس، ومجموعة واسعة من الأصدقاء والمفكّرين وعامّة الناس. أذكر أن كمال جنبلاط، وشارل مالك، والأديبة إميلي نصرلله كانوا يزوروننا، ولا تزال كتب هؤلاء وإهداءاتهم موجودة في مكتبة نعيمه التي انتقلَت معي من منزلنا في "الزلقا" إلى متحف ميخائيل نعيمه "ميماسونا" في "المْطَيْلبْ"، والاسم "ميماسونا" هو الحروف الأولى من ميخائيل ومي وسهى نعيمه".
- هل كان يشرب الكحول أو القهوة أو الشاي؟
- "في سنواته الأخيرة، التي شهدتها بنفسي ضمن عائلتنا الواحدة، كنت أراه يحتسي دمعة يوميّة من الويسكي، لم يكن يكملها، وكان يتناول معها الفستق الحلبي تفقّيه له أمّي، وحبات من "القضامي الصفرا" التي كان يحبّها. أما القهوة أو الشاي فكان يشربهما ليُساير بعض الزوّار، لكنّه لم يكن يطلبْها".
- هل عانى من أمراض معينة؟
" لم يكن يعاني من أي مرض، لكنه أصيب في أيامه الأخيرة بالتهاب الرئة، فوصف له الطبيب المضادات الحيويّة، لكنّ عمره لم يسعفه، وجسمه النحيل لم يعد يقوى على النهوض، إلى أن جاءت لحظة الوداع، عند الساعة العاشرة والثلث، من مساء 28 شباط 1988 ".
- هل كان يدخن؟
"كان يدخن السيجارة، وبقي يدخنها حتى اللحظة الأخيرة من حياته".
- هل كان يشاهد التلفزيون؟
- "اتذكره يشاهد الأخبار، ويشاركني مشاهداتي التلفزيونيّة ويشاهد معي "أبو ملحم" وأفلام "طُم أند جيري" الكرتونية، ويفرح لفرحي بها. كنت أفرح به صديقا، يشاهد معي ما أحبّه".
- من كان يعجبه من رجال السياسة العرب والأجانب؟
"كلّ الأمجاد الأرضيّة في نظر نعيمة لم تكن شيئاً. كلها إلى زوال، وما يبتدئ في مكان ما، ينتهي في مكان ما، وهذه عنده كانت حال السياسة والسياسيين؛ أمجاد وأطماع لفترة، لا تلبث أن تخبو وكلها عابر، لا يمثل الحقّ الأقدس للإنسان، وما فيه من روح الله".
- بمن تأثر من الكتاب؟
" كان تاثير العظماء الروس أمثال تولستوي ودوستيفسكي وبوشكن وليرمنتوف، بعيداً وعميقاً في حياته الأدبيّة. تأثر ايضاً بالمتسامين الأميركيين The transcendentalists، أمثال أمرسن، وهنري دايفيد ثورو، وكانت له قراءات متفرّقة متعمّقة لكبار المفكّرين الألمان والفرنسيين وغيرهم. كان نعيمة واسع الاطلاع وكثيف المعرفة".
- كم سنة أمضيت معه، وكم سنة أمضت أمك معه وكيف كان وقع رحيله عليكماّ؟
"أمضيت معه عشرين سنة، هي السنوات العشرون الأولى من حياتي، والسنوات العشرون الأخيرة من حياته، وحتى اليوم لا يزال هو رفيقي الدائم. عندما عاد من مهجره الأميركيّ كانت أمّي طفلة. اختار السكن مع عائلة أخيه نجيب (والد أمي) الذي كان يصغره بإحدى عشرة سنة، فكان قدر أمي أن تعرف عمّها من لحظة وصوله إلى "بسكنتا " عائداً من أميركا، في أيار من سنة 1932، إلى يوم رحيله في "الزلقا".  تسألني عن وقع رحيله علينا؟ كان شديداً وأحدث فراغا ليس بمقدوري وصفه، وبعد 26 سنة من رحيله، وتحديداً في 15 كانون الثاني من سنة 2014، لحقت أمي بعمها، وكانت الساعة الرابعة فجراً، والسماء صافية والقمر بدر".
- ما سبب نزوله من "بسكتنا" إلى "الزلقا"؟
- زواج ميّ وانفصالها عن زوجها فوزي حداد، وانتقالها إلى المنزل الذي أمّنه لها عمها مخايل، الذي كان بمنزلة والدها الروحي، هو أحد الأسباب لنزوله من "بسكنتا" إلى "الجْدَيْدة" ثمّ إلى "الزلقا". من الأسباب ايضاً، أشغاله الكثيرة مع دور النشر في بيروت، وحرصه على أن يبقى بعيداَ عن "بسكنتا" في أشهر الشتاء القارس، لكن بقينا، بعد انتهاء فصولي الدراسية كل سنة، نمضي الصيف في "بسكنتا"، ما عدا الصيف الأخير من حياة نعيمة، فقد اختار أن يمضيه في منزله في "الزلقا"، وبعد رحيل والدتي، نقلتُ ما في البيت من أثاث وأغراض خاصة، إلى منزلي في بلدة "المْطيْلبْ"، وأصبح متحفاً خاصاً لميخائيل نعيمه، يوثّق صفحات غنية من كتاب حياته، ومن بينها السنوات العشرون الأخيرة ".
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد