أحمد محمد الشحي
شهدت العقود الأخيرة تحولات عديدة في طبيعة تفاعلاتنا الاجتماعية، وذلك بعد توسع نطاق الإنترنت، الذي أتاح أنماطاً جديدة من وسائل التواصل الإنساني، وصولاً إلى تطبيقات التواصل الاجتماعي التي نشهدها اليوم.
بالإضافة إلى ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي يتيح توفير محتويات متعددة بسهولة ويسر، سواء كانت صحيحة أو مضللة، ليمثل ذلك تحدياً جديداً أمام العلاقات الإنسانية، وتشكل الأفكار والهويات، في أحد أبرز مظاهر العولمة المعاصرة المرتبطة بذلك.ط وبالنظر إلى وتيرة التصاعد التقني، نجد أن السهم في صعود مستمر في العقدين الأخيرين، ليكون هذا الجيل أكثر عرضة وأشد تأثراً.
فقد مثّل عام 2000 نقطة فارقة في هذا المجال، حيث أصبح الوصول إلى الإنترنت أسهل وأسرع بكثير، وأصبح استخدام برامج المراسلة الفورية متاحاً بسهولة، لتتوالى بعد ذلك العديد من المنصات التي أحدثت ثورات في التواصل الافتراضي، مثل «فيسبوك» الذي ظهر في 2004، و«يوتيوب» في 2005، و«تويتر» (إكس حالياً) في 2006، و«إنستغرام» في عام 2010، و«تيك توك» في 2016.
وصولاً إلى تطبيق «شات جي بي تي»، الذي ظهر في 2022، في مسيرة تقنية مستمرة، وفي ظل تنافس كبير بين شركات التكنولوجيا لجذب المستخدمين بابتكار الجديد، ومن ذلك ما نراه اليوم من موجة الفيديوهات القصيرة التي اجتاحت مختلف المنصات، وحققت انتشاراً واسعاً جداً.
ولا شك أن هذه المتغيرات تستدعي التفكير في الآثار المترتبة عليها في سلوكنا الاجتماعي والفكري على المدى القصير أو الطويل، فكما أن هذه العوالم الافتراضية فتحت آفاقاً جديدة للتواصل والتفاعل وتبادل الخبرات والتجارب والمعارف وفي مجال الوظائف والاستثمار وغيرها، فهي من جهة أخرى وضعت تحديات جديدة تتعلق بالخصوصية والأمان، وانحسار دور الفرد في العالم الواقعي، وتشكل الأفكار والتوجهات، واختراق الهويات من قبل الأشخاص والتيارات والتنظيمات المختلفة.
إن إحدى التأثيرات المزعجة للانخراط في هذه العوالم الافتراضية بشكل مبالغ فيه، تبعاتها على العالم الواقعي، فمع تطور شبكات التواصل الاجتماعي، زاد الوقت الذي يقضيه الأطفال والمراهقون، بل وحتى الكبار، أمام شاشات الأجهزة الذكية، وخاصة في الإجازة الصيفية، التي يقضي فيها كثير من الطلاب أوقاتهم في هذه العوالم.
فيبدأ دور الفرد ينحسر شيئاً فشيئاً عن العالم الواقعي، ابتداء من محيط أسرته، ومع أقرب الناس إليه، وقد بينت العديد من الدراسات أن زيادة الوقت الذي يقضيه الفرد على هذه الأجهزة، يرتبط بانخفاض تواصله مع أفراد أسرته ودائرته الاجتماعية.
وذلك أمر ملحوظ مشاهد، وقد يتسبب ذلك في زيادة مشاعر الاكتئاب والوحدة لديه. وربما صحب هذا الانخراط المبالغ فيه، التغاضي أحياناً من قبل الآباء، ظناً منهم بأنهم يتيحون بذلك لأبنائهم المتعة التي يحبون، أو أن ذلك يشغلهم عن الإزعاج والانزعاج، دون تقنين وترشيد ومتابعة لما يشاهدون ويتابعون، ومع من يتواصلون، ذلك الذي من شأنه أن ينعكس سلباً على صحتهم النفسية والاجتماعية، وسلامتهم الفكرية.
وقد يقعون ضحايا لابتزاز أو تنمر، أو مصادقة أصدقاء افتراضيين سيئين، وقد يكتسبون توجهات وأفكاراً وعادات تضر بهم. والتواصل عبر العوالم الافتراضية غير مأمون في كثير من الأحيان، فمن سمات التواصل الافتراضي، زوال كثير من القيود عند التواصل مع الطرف الآخر، ما قد يجعل الإنسان يصور نفسه بشكل مختلف عما هو عليه في الواقع.
فينطبع في ذهن الآخر تصور خاطئ عنه، فمن الممكن أن يجده جريئاً في كلامه وآرائه في التواصل الافتراضي، بينما إذا التقى به، يجده خجولاً منطوياً، فضلاً عن الصفات والخصائص الأخرى، الجسدية أو الأخلاقية أو غيرها، التي قد يتصورها عن الآخر، على خلاف ما هي عليه في الواقع، مع ما قد يصحب ذلك من سلوك الآخر مسالك الكذب والخداع.
ولذلك، يمكن أن تكون هذه العوالم مكاناً للمفترسين الباحثين عن ضحاياهم. كما تكمن الخطورة أيضاً في ما نجده من التنافس المحموم بين كثير من التيارات في الترويج لأفكارها وتوجهاتها، بما في ذلك التوجهات المتطرفة والطائفية والانحلالية، فيحتاج الفرد إلى أن يتحلى بالوعي والتحصين، وينأى بنفسه عن هذه المؤثرات، لئلا يقع ضحية أي فكر دخيل أو أيديولوجية متطرفة، أو اختراق لهويته الوطنية، بالتأثير ممن يحرضون على الأوطان، ويطعنون في القيادات والمؤسسات، ويستقطبون لصالح تيارات وتنظيمات.
إن العالم الافتراضي سلاح ذو حدين، ولا غنى عنه في الحياة المعاصرة، وخاصة في أوقات التحديات العالمية، وأزمة «كورونا» نموذج على ذلك، إلا أن ذلك يتطلب من الفرد أن يتحلى بالوعي والمسؤولية، لتسخير هذه التقنيات الحديثة في ما ينفعه وينفع مجتمعه ووطنه.