أثارت بعض استعراضات افتتاحية الأولمبياد في العاصمة الفرنسية باريس انتقادات واسعة داخل فرنسا وخارجها، بعضها تعلق فيما اعتبر إسقاطاً مسيئاً على لوحة العشاء الأخير التي رسمها الفنان الإيطالي ليوناردو دا فينشي ويظهر فيها السيد المسيح، كما انتقد كثيرون في الشرق وخصوصاً في عالمنا العربي بعض الاستعراضات التي عرضت مشاهد قبول المثلية الجنسية، وفي كلتا الحالتين يمكن اعتبار هذا النقد مشروعاً ومنسجماً مع منظومة القيم السائدة في مختلف المجتمعات الشرقية.
إن رفض مجتمعاتنا التطبيع مع المثلية الجنسية طبيعي، لأن ثقافة هذه المجتمعات ومنظومة قيمها ترفض من يروجون لفكرة أنهم جنس ثالث جديد من حقهم أن يتزوجوا ويتبنوا أطفالاً لم يختاروا أن يكون «أبواهم» من نفس الجنس، وهو خيار رفضته بعض الدول الأوروبية ومعظم دول العالم.
كما رفضت مجتمعاتنا مسألة ازدراء الأديان وبشكل أصيل دون ادعاء، واعتدنا أن يكون هذا الازدراء موجهاً ضد الإسلام، ولكنه هذه المرة وجه ضد المسيحية رغم نفي القائمين على استعراض باريس وجود هذه النية وعدم اعتبار اللوحة محل الجدل لها علاقة بلوحة العشاء الأخير.
ولم تكن فرنسا تنتظر رد فعل مسيحيي العالم العربي على لوحة العشاء الأخير لتتأكد أن مسألة رفض المساس بالمقدسات الدينية هي قيمة موجودة لدى المسيحيين والمسلمين معاً، وأن ما يجب أن نقوم به ليس هداية الغرب «للطريق القويم»، إنما أن يضع ضمن منظومة قيمه الأساسية قيمة أخرى تتعلق باحترام الحضارات والثقافات الأخرى ما دامت لا تتعارض مع قيم إنسانية محل توافق من كل المجتمعات والثقافات، مثل رفض العنصرية وانتهاك حقوق الإنسان والتحريض على العنف تحت مسمى الخصوصية، ولكن هناك مكان لخصوصية ثقافية تتعلق برفض الإساءة للمقدسات الدينية أو رفض تقنين المثلية الجنسية وقبولها في المجال العام.
صحيح أن فرنسا تدين الإساءة للمؤمنين من أبناء الديانات المختلفة، فمثلاً الإساءة للسيد المسيح وللعقيدة المسيحية مقبول، لكن إهانة المسيحيين كأفراد أو مواطنين مدان قانوناً، ونفس الأمر ينسحب على باقي الديانات الأخرى. والسؤال هو كيف يمكن للعالم العربي أن يشتبك مع أوروبا، وتحديداً مع فرنسا، ونقول إن الإساءة للمقدسات يمثل أيضاً إساءة للأفراد، ولا يمكن القول إن الرسوم المسيئة للرسول الكريم مقبولة، وتكرار القول إن الإسلام دين يحرض على العنف لا يسيء للمسلمين أيضاً كأفراد.
إن مشكلة تعامل جانب من الرأي العام وكثير من رجال الدين في العالم العربي مع هذه التوجهات الغربية ليس في رفضها وإدانتها، فهو أمر طبيعي ومشروع، إنما في طريقة مواجهتها وذلك منذ نشر الرسوم المسيئة للرسول الكريم في أكثر من صحيفة أوروبية إلى الإساءة للسيد المسيح في أحد استعراضات أولمبياد باريس، حيث الاكتفاء بالإدانة والرفض ورفعت أحياناً دعوات مقاطعة البضائع الدنماركية تارة والفرنسية تارة أخرى أو الحديث عن مخاطر الاختراق الثقافي الغربي لحضارتنا، وأن مشهداً هنا أو لقطة هناك ستهدم حضارتنا الضاربة في جذور التاريخ، وستضعف إيمان الناس بعقيدتهم الإسلامية أو المسيحية، في حين أنه من المؤكد أن هذه العقائد راسخة في نفوس الناس ولن تهزها مثل هذه الأشياء.
وقد حاول بعض «الدعاة الجدد» وعدد من رجال الدين، عقب أي إساءة للإسلام أو عملية إرهابية تلصق أسبابها بالإسلام، الترويج لمقولة يجب أن نقنع الغرب أو على الأقل نشرح لهم «الإسلام الصحيح» وهو مفهوم ينم عن عدم فهم العقلية الغربية التي ليست على استعداد لمناقشة تعاليم الإسلام الصحيح ولا أي ديانة أخرى، إنما أن يلتزم فقط المؤمنون بهذا الدين بدستور البلد وقانونه.
إن المطلوب ليس «هداية الغرب» وإقناعه بما تمثله الأديان من قيم سامية أو الاكتفاء برفض أي إساءة أوروبية للمقدسات الدينية، لأن هذا الرفض لا يمثل الرسالة البديلة المطلوب تقديمها في مواجهة «بضاعة الغرب»، إنما مطلوب التأكيد على التنوع الحضاري واحترام ثقافة المجتمعات الأخرى.
إن النقاش العربي الغربي ودور كثير من الرموز الثقافية والدينية في منطقتنا يجب أن يتخلص من عقدة إننا الصح وهم الخطأ ما دمنا دخلنا في حوار مشترك، إنما يجب أن يكون على أرضية أن كلينا قد يكون على صواب، وأن القضية في قبول الاختلاف والتنوع في هذا العالم، وليس أن منظومة قيمنا يجب أن تعلو، إنما يجب أن تحترم، لأنها في الحقيقة هي الغالبة خارج المنظومة الحضارية الغربية، وأن احترام الثقافات الأخرى قد يفتح الباب أمام تجاوز التحيزات الغربية في السياسة والكيل بمكيالين ووجود نظرة عادلة تجاه مختلف الثقافات تحترم التنوع الحضاري في العالم وترفض حديث الأفضلية أو الاستعلاء من أي جانب.