ظلت المنطقة العربية على رأس الفضاءات الأكثر سخونة وارتباكاً منذ نهاية الحرب الباردة في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وقد اتخذ الأمر طابعاً دموياً في عدد من الدول كالصومال. وفي الوقت الذي تفاعلت فيه الكثير من الدول في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وجنوب شرق آسيا، مع الدينامية التي شهدها العالم في أعقاب المتغيرات التي فرضها انتهاء الصراع الأيديولوجي، باعتماد إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، مكنتها من تحقيق مجموعة من المكتسبات وتجاوز عدد من الأزمات، لتحتل بذلك مكانة وازنة في عالم متغير، عاشت المنطقة العربية بشكل عام، على إيقاع الجمود؛ حيث اتخذت الإصلاحات المعتمدة طابعاً سطحياً، ولم تكن في مستوى ما شهده العالم من تطورات.
وعلى امتداد العقد الأخير، عرفت المنطقة العربية احتجاجات واسعة في إطار الموجتين الأولى والثانية للحراك الذي انطلق من تونس قبل أن ينتقل إلى عدد من دول المنطقة، تأرجحت مظاهرها (الاحتجاجات) بين السلمية تارة والعنف تارة أخرى، وتباينت حدتها وانعكاساتها من بلد إلى آخر، بين تحقيق مكتسبات سياسية واجتماعية من جهة، ووقوع انفلاتات أمنية ومعضلات اقتصادية واجتماعية وأمنية من جهة أخرى.
وفي الوقت الذي تصاعدت فيه المطالب بإصلاحات سياسية واقتصادية خلال مرحلة الموجة الأولى من هذا الحراك بعدد من البلدان، كسوريا ومصر وتونس واليمن والمغرب والأردن والجزائر والعراق.. برزت موجة جديدة من الاحتجاجات في أعقاب جائحة كورونا في عدد من البلدان العربية، كالسودان ولبنان وتونس والعراق، كتعبير عن المعضلات الاقتصادية والاجتماعية التي خلفتها فترة الإغلاق والتدابير الصارمة المعتمدة بعد تمدّد وباء كورونا، وعدم الرضا عن الترتيبات السياسية التي اعتمدتها بعض النخب السياسية في كثير من الدول في أعقاب هذا الحراك. ومع اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، وتنامي مخاطر التهديدات العابرة للحدود، ستتعمق المعضلات الاجتماعية والاقتصادية أكثر في المنطقة من جديد بفعل الارتفاع الملحوظ الذي شهدته أسعار النفط والحبوب والمواد الأساسية على المستوى العالمي.
إن ما شهدته مجموعة من البلدان العربية من احتجاجات يغلب عليها الطابع الاجتماعي، المتصل بتحسين الأوضاع الاجتماعية، وتوفير فرص العمل، ومحاربة التهميش والفقر، وتحسين الخدمات الصحية والبنى التحتية. يعكس واقع الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية التي باتت تتهدد الكثير من هذه البلدان، وتراجع المطالب المرتبطة بإصلاحات دستورية وسياسية، إلى مطالب باعتماد مبادرات وإصلاحات اقتصادية واجتماعية تحد من واقع الأزمات المتلاحقة في المنطقة.
وفي هذا السياق، انعقدت بمدينة مراكش أشغال المؤتمر العلمي الدولي الذي نظمه منتدى ابن رشد للسياسات والمركز العربي للأبحاث حول موضوع: «مساهمة المجتمع المدني في معالجة تمظهرات الهشاشة الاقتصادية والتحديات الناشئة عنها في المنطقة العربية»، وذلك بمشاركة خبراء وفاعلين من المغرب ومصر وتونس والعراق ولبنان.
تناولت المداخلات والنقاشات مجموعة من المواضيع ذات الصلة، حيث تم تأكيد أن الدولة تتحمل القسط الأوفر من المسؤولية في ما يتعلق باعتماد تدابير وإصلاحات تحد من تفاقم هذه الأوضاع في عالم ملتهب ومتعدد المخاطر، غير أنه وبالنظر إلى تعقد السياسات العمومية وعدم القدرة على تنفيذها في كثير من الأحيان بفعل غياب النجاعة وتلاحق الأزمات أو لاعتبارات متصلة بانتشار الفساد، يظل الأمر غير كافٍ، ويطرح أهمية تضافر الجهود لإيجاد حلول جماعية تستحضر الذكاء الاجتماعي للتغلب على مظاهر الهشاشة.
وأخذاً بعين الاعتبار للتعدد الذي يطبع التنمية، من حيث أبعادها والفاعلون في تحقيقها، يأتي الدور المحوري للقطاع الخاص، والجماعات المحلية، وللجامعة كفضاء لإنتاج المعرفة ولتدبير الخلافات بأبعادها الإدارية والاقتصادية والسياسية في المجتمع، والهيئات المدنية كإطارات تطوعية احترافية تحتضن الكفاءات، حيث أضحت مهامه تتجاوز التحسيس والترافع، إلى خلق فرص العمل، عبر استثمار الموروث الثقافي والتاريخي بقدر من الذكاء، والرهان على تحقيق تنمية شاملة تستحضر الشباب والنساء.
تم التوقف عند دور القطاع الخاص في مصر، وبخاصة على مستوى تحسين فرص التمويل، وتوطين التكنولوجيا الحديثة، وتعزيز فرص التدريب وتنمية الموارد البشرية، وفي مجال التصدير، مع تأكيد أهميته في خلق فرص الشغل في أوساط الشباب، وخصوصاً أمام الكلفة التي تلتهمها «البيروقراطية الإدارية» بالبلاد.
أما في ما يتعلق بالحالة اللبنانية، فقد تحولت الهشاشة الاقتصادية، بحسب بعض المتدخلين، إلى أزمة حقيقية خلال السنوات الأخيرة بسبب ارتفاع نسبة الفقر والبطالة الحقيقية والمقنعة، وتزايد نسب الضرائب، وتنامي الهجرة نحو الخارج، إضافة إلى حصول اختلالات في ميزان الموازنة العامة للبلاد، وارتفاع نسب المديونية الخارجية، بما جعل البلاد في وضع صعب عمقته المشاكل السياسية والنزاعات التي يشهدها المحيط الإقليمي، وهو ما يحتم ابتكار حلول حقيقة ومستدامة تقوم على الانفتاح على عدد من الشركاء إلى جانب الدولة.
وأخذاً بعين الاعتبار للضغط الذي تفرضه النزاعات على صانعي القرار الحكومي، بالنظر إلى انعكاساتها المختلفة، وما ينتج عنها من أزمات متفرعة، تم التوقف عند المجهودات التي تقوم بها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان كإطار تشاركي يخفف العبء عن الدولة المستضيفة في هذا الصدد، على مستوى تقديم الخدمات الاجتماعية والتعليمية والطبية والاقتصادية.