الحروب لا تخوضها الجيوش والجماعات المسلحة فقط، وإنما يخوضها أيضاً الشعوب والسياسيون والدبلوماسيون وخبراء الاقتصاد والإعلام والمثقفون.. فلا توجد حرب في زمن السوشيال ميديا إلا وانخرطت فيها شعوب الأطراف المتصارعة، تحارب بجانب جيوشها بنشر الحقائق أحياناً والشائعات وترديد الأكاذيب وسرد المواقف والترويج لانتصارات، بصرف النظر عن كونها وهمية أو حقيقية أحياناً أخرى، وتصل حروب الشعوب إلى الاشتباك بالكلمة، قصف لفظي قد لا يقل تأثيراً عن القصف المدفعي، يزيد التوتر ويوسع مساحة الكراهية ويروج للعنف، ولا تقتصر حروب الشعوب على شعوب الأطراف المتصارعة فقط، بل تمتد إلى شعوب الدول المحيطة وأحياناً إلى شعوب العالم.
فمثلاً الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا شغلت العالم كله، وقسّمت العالم إلى قسمين، قسم يتعاطف مع حق روسيا في حماية أمنها القومي واستعادة هيبتها المفقودة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وقسم يراها خطراً على الغرب يستحق الاجتثاث.
الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، والتي نجمت عن عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر، أيضاً تجاوزت حدود كونها صراعاً بين إسرائيل والفصائل من وجهة نظر قطاعات شعبية في دول مختلفة حول العالم، فبعضهم يراها حرباً مشروعة تدافع فيها إسرائيل عن أمنها، وآخرون يرونها تستهدف إبادة شعب وتهجيره قسرياً من أرضه؛ إنها الحرب التي أعادت تشكيل اتجاهات الرأي العام العالمي تجاه الوجود الإسرائيلي والحق الفلسطيني، فبعض من كانوا منحازين لإسرائيل قبل هذه الحرب غيرت مشاهد قتل الأطفال والنساء والمدنيين والتجويع الجماعي لأهل غزة مواقفهم، وهو ما يفسر التظاهرات التي تجوب شوارع مدن حول العالم بين يوم وآخر مطالبة بوقف الحرب، ولعلها نتيجة طبيعية بعد أن طال أمد الحرب وزاد عدد قتلاها ومصابيها ليصل إلى أرقام غير مسبوقة خلال تاريخ الحروب بين إسرائيل والفلسطينيين.
الحرب في السودان هي شأن آخر، وانخراط الرأي العام العالمي فيها ليس مثل حربي أوكرانيا وغزة، وقد يكون السبب أنها بين فصيلين عسكريين في دولة واحدة، يقاتل فيها سودانيون سودانيين، وانقسم الشعب الواحد إلى شعبين، أحدهما يؤيد الجيش السوداني والآخر منحاز إلى قوات الدعم السريع، هي نار تكوي السودان وحده، حتى وإن طالت شراراتها دول الجوار بسبب عمليات الهجرة والهروب من قلب النار وخلقت حالة من عدم الاستقرار الإقليمي، إلا أن تأثيراتها العالمية تظل محدودة عن أوكرانيا وغزة.
لا يخفى على أحد الآثار الاقتصادية للحرب في أوكرانيا، والتي امتدت إلى معظم أنحاء العالم وتسببت في رفع أسعار المواد الغذائية بعد تأثر سلاسل الإمداد بمعاركها، ولا يخفى على أحد الظلال الاقتصادية لحرب غزة على الاقتصاد الإسرائيلي والذي أصبح مهدداً. أما قطاع غزة فقد انهار اقتصادياً وأصبح الحصول على رغيف خبز أمل كل إنسان، ورعب الموت جوعاً لا يقل عن رعب الموت قصفاً، وهو ما دفع العالم إلى البحث عن وسائل جديدة لإدخال المساعدات، وكان آخرها إسقاط المساعدات جواً والعمل على إنشاء جسر بحري.
الإعلام كان دائماً إحدى أدوات الصراع منذ القدم، ولعل الإعلام العالمي المنحاز أصبح مهدداً بفقدان مصداقيته في حربي أوكرانيا وغزة، بعد أن فضحته السوشيال ميديا بما يبثه الأفراد عبرها من مشاهد ومواقف غير مسموح تداولها في الإعلام التقليدي. الجمهور يبحث دائماً عن الحقيقة ولا يريد تغييب أحد جوانبها عنه، ولعل هذا ما يفسر الإقبال غير المسبوق في الغرب على الحوار الذي أجراه الإعلامي الأمريكي تاكر كارلسون مع الرئيس الروسي بوتين، والذي قدم للرأي العام هناك الرؤية المغيبة عمداً عن الإعلام الغربي ووضع كبرى وسائل الإعلام في حرج.
الدبلوماسية تسير في أوقات الحروب في خط متواز مع تحركات الجيوش والجماعات المسلحة، الجيوش تقاتل والدبلوماسيون يفاوضون بحثاً عن هدن أو تفاهمات لوقف الحرب أو على الأقل الحد من تأثيراتها الكارثية على المدنيين، وعلى مدار أكثر من عامين تمت مناقشة العديد من المقترحات لوقف الحرب الروسية الأوكرانية بلا جدوى، قد يكون السبب وراء ذلك تعدد الأطراف المنخرطة فيها إلى جانب أوكرانيا، أوروبا بكاملها ومعها الولايات المتحدة ودول أخرى، فما يتم طرحه من حلول للتهدئة لا تستطيع أوكرانيا وحدها اتخاذ قرار بشأنه، فلكل واحد من الداعمين والممولين حق الرجوع إليه قبل اتخاذ القرار، وما توافق عليه دولة قد ترفضه أخرى، بجانب أن القرار الفعلي بشأن هذه الحرب بيد الولايات المتحدة وحلف الناتو، ومهما طال أمد الحرب فلن يحسمها سوى القرار السياسي بعد التفاوض الدبلوماسي.
ما أكثر جرعات الأمل التي سربها الإعلام عن قرب التوصل إلى هدنة لوقف الحرب على غزة، ولكنه الأمل الذي يتحول سراباً، بفضل العراقيل الإسرائيلية واللاءات «الحمساوية» المتكررة، فالشيطان يكمن دائماً في الشروط، حيث يسعى كل طرف إلى فرض شروطه على الآخر، ويرى كلا الطرفين أن قبول شروط الآخر إذعان واستسلام، بصرف النظر عن الخسائر البشرية اليومية والكوارث التي تسببها هذه الحرب.
هدنة واحدة نجحت على مدار خمسة أشهر، وعشرات المقترحات لهدن من الوسطاء كان مصيرها الفشل.
مثلما الحروب قرار سياسي تنفذه الجيوش، فإن وقفها قرار سياسي تلتزم به الجيوش، ولن يحسم الفعل العسكري أياً من الحروب التي تمزق العالم حالياً، ولكن سيحسمه قرار سياسي حكيم بعد مفاوضات دبلوماسية تحمل بعض التنازلات لأجل السلام العالمي.