لست في صدد الحديث عن «الحضارم» كظاهرة سلوكية وأخلاقية بشرية عابرة للجغرافيا والثقافات سجّلت أروع معطى قيمي ثقافي علمي سياسي لافت بما تنطوي عليه هذه الظاهرة الأزلية من مِهنيّة عالية تاريخياً في التجارة والمال والأعمال. لأن ما يعنيني حسب هدف هذا المقال ومساحته هو الوقوف عند «المدرسة الحضرمية» إذا صح التعبير في ريادة الأعمال وحضانة المشروعات الصغيرة والمتوسطة، تحديداً من خلال إعداد وتمكين أجيال من أبنائهم لسوق العمل عملياً وممارسةً ضمن معرفة وتجربة الآباء، التي تنحصر في الغالب في مهنة وحرفة الآباء ومن خلال التطبيق العملي الميداني وعلى مراحل تدريجية، ليتسنى التأكد من إتقان كل مرحلة قبل الانتقال لما يليها من مراحل ويتم كل ذلك تحت بصر وسمع «التاجر المدرب» ومن خلال إسناده للشاب المستجد بالتجربة العملية والمعرفة التراكمية الضرورية لكل مرحلة وبجرعات، وهذا ما يسمى في علم التدريب «التدريب على رأس العمل» لكنه ميداني وفي مقر العمل.
يتميز هذا النوع من التدريب أو التمكين بأنه امتداد للتربية الأبوية المنزلية التي عادةً ما تكون من الأبوين إلى الأبناء أو من في حكمهم، رغم أن المتدرب قد لا يكون من أبناء التاجر في حالات كثيرة وفق هذه المدرسة، كما أن هذا التمكين يتميز بأنه شامل فلا يقتصر على تخصص مثل الإدارة مثلاً بمعزل عن المالية أو بمعزل عن المبيعات أو التسويق أو بمعزل عن البرمجة الحاسوبية كما هو في حالة التدريب المتعارف عليه، هذا التدريب هو ممارسة لمقتضيات المرحلة بصرف النظر عن التخصصات. ولذلك هم لا يُعدّون موظّفين بل يُعدّون تُجّاراً مهيئين لدخول السوق بأقل مغامرة وأكثر ثقة بالنفس. من خلال إحاطة التاجر الناشئ وتعريفه بالأسس الضرورية والآفاق الرحبة الممتدة من الحدود الدنيا إلى الحدود العليا التي يجب معرفتها لبدء مشروع مهما كان حجمه.
هذه المدرسة الحضرمية الرائدة في ريادة الأعمال وحضانة المشاريع الصغيرة والمتوسطة، لا يشبهها أو يدانيها إلا «المدرسة القصيمية» في ريادة الأعمال وحضانة المشروعات الصغيرة والمتوسطة، رغم ما بين المدرستين من تباين في بعض الجوانب من حيث المستهدفات وقنوات التنفيذ. فالمدرسة الأولى -كما يبدو- لا تقتصر على الأبناء بل تشمل حتى أبناء الأقارب وأبناء الأصدقاء ومن في حكمهم، وذلك خلافاً للمدرسة الثانية التي تعمل في الغالب على الأبناء. كما أن «المدرسة القصيمية» في ريادة الأعمال لا تقف عند مهنة أو تجارة الآباء فقط ونقلها للأبناء، بل إنها مفتوحة على كل أنواع التجارة الممكنة والمنتجات والخدمات الممكنة والمتاحة، فالهدف هنا إتقان التجارة كبنية تحتية بصرف النظر عن نوع التجارة، طالما أن الهدف هو إعداد وحضانة رائد أعمال أو مشروعات صغيرة ومتوسطة. ولذلك قد تجد ثلاثة إخوة؛ أحدهم يعمل في تجارة التمور، والثاني في تجارة الطيور، والثالث في تجارة السيارات، بينما في المدرسة الأولى تجد الإخوة الثلاثة غالباً أصبحوا روّاداً في مجال مهنة الأب الذي هو ورثها من أبيه، وهذا ما يجعل المدرسة القصيمية في تصوري أكثر مغامرة، ومدرسة تنحو أكثر للابتكار والأفكار المستجدة. فالتمكين حسب المدرسة الحضرمية، تمتد جذوره إلى توجهات وبوصلة الموارد البشرية، بينما التمكين بالنسبة للمدرسة القصيمية تمتد جذوره إلى توجهات وبوصلة سوق العمل.
في كلتا الحالتين، إنني أتساءل، عن إمكانية دراسة وتطبيق وتأصيل المدرستين الرائدتين (القصيمية والحضرمية) في ريادة الأعمال والمشروعات الناشئة وتبنيهما والأخذ بهما مرجعيةً معتمدةً في تمكين روّاد الأعمال السعوديين من خارج دائرة هاتين المدرستين الرائدتين والثقافتين الإيجابيتين وتدريسهما في مدارس الأعمال وحضانة المشروعات الصغيرة والمتوسطة. لأن هاتين المدرستين لا تزالان تحافظان على صدارة النجاحات، بينما الكثير من التحديات تواجه روّاد الأعمال من خارج هاتين المدرستين والثقافتين. فمن أين نبدأ هذا المشروع؟ ولماذا لا تتم المقارنة بين نجاحات وإخفاقات روّاد الأعمال ضمن المدرستين ونظرائهم من خارج هاتين المدرستين؟ ولماذا لا يكفي التدريب والتمويل الذي تتيحه وتوفره الصناديق والهيئات للتغلب على المشاريع المتعثرة والفاشلة؟ وهل نتنبه لأهمية وضرورة وتأثير ريادة الأعمال في المدرستين القصيمية والحضرمية في بناء الثقة والجرأة والقدرة على خوض غمار التجربة والذي قد لا يحصل عليها روّاد الأعمال من خلال أدوات التمكين المتاحة حالياً؟