المشهد المستقبلي للقضية الفلسطينية لن يكون كما نتوقعه أو نريده كعرب، فارتباطنا بالقضية الفلسطينية ارتباط اليد بالجسد مهما قيل من أفكار، أزمة السابع من أكتوبر سمحت بظهور مشهد لا بد وأن تأخذه المنطقة بسياساتها وسياسييها على محمل مختلف، فالنتائج المحتملة وفق المعطيات لقائمة اليوم لا تحمل الأمل، فبرغم الطلب الأميركي بضرورة وضع خطة واضحة حول القطاع أو من سوف يديره بعد الحرب، إلا أن نتنياهو يرفض بشكل مستمر أن يتحدث عن ماذا سوف يحدث في اليوم التالي، رغم أن مشهد قطاع غزة بما حدث له من تدمير أصبح يوحي بسيناريوهات كلها وبدون استثناء مقلقة.
يدور حديث دولي عن خطة أميركية تفترض وجود قوة دولية في غزة بعد وقف الحرب يعقب ذلك تسليمها إلى السلطة الفلسطينية التي تعاني حقيقة من الكثير من التحديات السياسية والاقتصادية والبنيوية، ولعل السؤال الأهم هو مدى تحقق الفكرة الإسرائيلية بالقضاء على حماس، وهل يمكن أن يحدث ذلك..؟ وإن حدث فسوف يكون على حساب كل شيء فوق أرض غزة وتحتها، بمعنى دقيق ثمن القضاء على حماس هو القضاء على غزة وهذا السيناريو يشكل مفتاحا كبيرا لمستقبل غزة وتأثير ذلك على المنطقة بأكملها.
هل ستبقى حماس كما هي، وهل هناك أهداف أخفتها إسرائيل وحققت الأرباح منها عبر استثمار أزمة الصراع مع حماس..؟ الصراع في غزة كشف للعرب حجم الانفصال الذي يمكن لإسرائيل أن تحققه بعيدا عن المشورة الأميركية، والحقيقة أن الواقع اليوم يطرح تجربة مهمة فإسرائيل تختبر تفردها في صياغة قرارها الاستراتيجي بعيداً عن الضغط الأميركي.
هذه التجربة حديثة ولم يتم المرور بمثلها منذ ما يقارب من ثمانية عقود، فالترويض الأميركي للمنطقة من أجل إسرائيل أصبح اليوم ينتقل إلى مرحلة جديدة تجعل من إسرائيل أكثر جرأة من ذي قبل على الانفصال عن أميركا مع بقاء أميركي في صف التأييد لإسرائيل رغم العناد الإسرائيلي لها.
كل المسؤولين الأميركان تحدثوا عن هذه المرحلة فبحسب صحيفة بوليتيكو قال مسؤول أميركي "بأن الإدارة الأميركية لم تتمكن من دفع القادة الإسرائيليين نحو مناقشة ذات مغزى لشكل غزة بعد الحرب، مؤكدة أنه لا يوجد حديث عن تقييد المساعدات العسكرية الأميركية كوسيلة للضغط على إسرائيل".
نفس الصحيفة أشارت إلى أنه على الرغم من إعلان وزير الخارجية أنتوني بلينكين وآخرين في إدارة بايدن أن السلطة الفلسطينية المعاد تنشيطها يجب أن تدير القطاع، إلا أنهم لم يكشفوا عن تفاصيل كيفية تحقيق ذلك، وأعربت تل أبيب عن معارضتها واستبعدت الأمر"، حقيقة الأمر أن القضية تجاوزت مجرد فكرة هجوم يعقبه انتقام.
هناك صيغة جديدة وتحولات يجب عدم تجاوزها فإسرائيل اليوم وبعد أن اقتربت من خلع اللجام الأميركي حول عنقها في قضية غزة هي تتعامل أيضا مع المنطقة وفق معطيات مختلفة، ولذلك هي لن تتأخر عن استخدام معطيات التطبيع والاتفاقات الأمنية والسياسية التي حققتها مع دول المنطقة.
غياب أي شكل سياسي فلسطيني من غزة هو عملية ذات مخاطر كبرى على القضية والمنطقة بأكملها، فالحرب والسياسة العربية عليها الدفع نحو ترسيخ السلطة الفلسطينية في القطاع مهما كان الثمن، لأن أي شكل دولي أو إقليمي يدفع للدخول إلى غزة سوف يكون مخاطرة استراتيجية على المنطقة بأكملها، إسرائيل تدرك أنه تم تدمير القطاع بأكمله وأن كلفة إعادته إلى وضعه السابق كبيرة ولن تسمح إسرائيل بإعادة بناء القطاع إلا أن يكون هناك مساحات تختارها هي من القطاع لبناء مستوطنات جديدة وهذه طريقة تقليدية لإسرائيل لتنفيذ فكرة قضم الأرض.
النموذج الأخطر كما تحدث عنه الكثير من الباحثين يقول إن إسرائيل إذا عجزت عن تحقيق أهدافها فقد تعمد إلى تشكيل عشوائي لميليشيات مسلحة يمكنها التشكل بسرعة من بقايا المحاربين أو من مجموعات ترغب في حماية نفسها وهنا ستكون إسرائيل شريكا أساسيا في وضع ميليشيات مناصرة لها واستخدام هذه الميليشيات كذريعة للتدخل الدائم لإسرائيل في القطاع.
أميركا التي تحاول أن تختار الحلول المناسبة لن تستطيع في النهاية سوى اختيار الحلول الأصعب للقضية تحت ذريعة أنها هي فقط الحلول المتاحة لدرء الحرب والدمار، وهذا يسهم وبشكل مباشر بأن التوقعات المقبلة لن تكون حلولا ذات قيمة فعلية بالنسبة للقطاع أو سكانه.
هناك شكوك كبرى حول فكرة إعادة إعمار القطاع وإعادة تسليمه إلى سلطة فلسطينية، كل ما يجب أن ندركه اليوم أن الحلول ليست متاحة فكل يوم هناك ظروف جديدة تطرأ على المشهد لتغير الكثير من الاحتمالات ولكن المؤسف أنها كلها تبعدنا عن الحلول العادلة والإنسانية لقضية يبدو أن حروبها سوف تستمر دون حلول لسنوات طويلة قادمة.