من الفنون التي لها جمهور كبير وانتشار واسع في كل العالم، فن الكاريكاتير، وهو فن يعتمد على رسم الشخص لصورة مع المبالغة في تغيير وتحوير ملامحها، بهدف السخرية أو النقد الاجتماعي أو الهجاء السياسي.
أما مفردة «كاريكاتير» فمشتقة من كلمة «كاريكير (caricare)» التي تعني «يبالغ» بالإيطالية، حيث إن هذا الفن ظهر لأول مرة في إيطاليا، في منتصف القرن 15 م، قبل أن ينتشر في فرنسا وبقية أوروبا في القرنين 16 و17 الميلاديين، على يد رسام إيطالي ماهر، هو «جيان لورينزو برنيني»، وغيره من فناني تلك الحقبة المليئة بالصراعات السياسية والدينية. هذا إذا ما استبعدنا ما يقال من أن الرسوم الكاريكاتيرية فن قديم، عرفه الفراعنة والآشوريون والإغريق، وكانت تستخدم للتعرض للحكام الطغاة بالسخرية من أعمالهم وأقوالهم.
ولأن لهذا الفن أهدافاً مختلفة، فقد تعددت أنواعه وأدواته ومعاييره ومدارسه، فقد انقسم من حيث المحتوى إلى كاريكاتير الواقع وكاريكاتير الخيال، ومن حيث المدارس، إلى المدرسة الأوروبية الشرقية والمدرسة الأوروبية الغربية والمدرسة الأمريكية، ومن حيث الشكل إلى كاريكاتير الصورة وكاريكاتير النص وكاريكاتير الشريط المصور، ومن حيث التصنيف، إلى الكاريكاتير الاجتماعي والسياسي والثقافي والرياضي والفني وغيرها، لكنه بصفة عامة، وأياً كان نوعه، فإنه يختزل ألف عمود صحافي برسمة، ناهيك عن أنه يوصل رسالته إلى المتلقي بطريقة بسيطة ومضحكة وتهكمية، ويسهم في أحايين كثيرة في معالجة القضايا الملحة، أو تكوين رأي عام واسع، أو إثارة قضية مسكوت عنها، أو بيان عيوب المجتمعات والأفراد والمؤسسات. ومن هنا، قيل إن من أهم شروط الرسام الكاريكاتيري الناجح، عدا موهبة الرسم وملكة الجرأة، هو أن يمتلك مخزوناً ثقافياً ومعرفياً كبيراً، ويكون على اطلاع واسع بما يشغل الناس.
دخل فن الكاريكاتير العالم العربي في الربع الأخير من القرن 19، من خلال الصحافة المصرية، وعلى يد «يعقوب صنوع» الملقب بـ «سيد الساخرين العرب في العصر الحديث»، وصاحب جريدة «أبو نظارة زرقاء» الأسبوعية، التي صدرت في القاهرة زمن الخديوي إسماعيل، الذي أوقفها لأنها كانت تهاجمه برسوماتها، ثم انتشرت بعد ذلك من خلال مجلة «خيال الظل» عام 1907، لأحمد حافظ عوض، ومجلة «الكشكول» عام 1921، لسليمان فوزي، ثم مجلة «روز اليوسف» عام 1925، لفاطمة اليوسف وغيرها.
ومن مصر، انتقل فن الكاريكاتير إلى بلاد الشام، أولاً من خلال مجلة «المضحك المبكي» الدمشقية عام 1929، لحبيب كحالة. كما انتقل لاحقاً إلى تونس، من خلال جريدة «السرور»، لعلي الدوعاجي وبيرم التونسي سنة 1936. وفي العراق، ظهر هذا الفن عام 1931، من خلال جريدة «حبزبوز»، لنوري ثابت. أما في دول الخليج العربية، فلم تصدر صحف أو مجلات متخصصة بالكاريكاتير، وإنما ظهر هذا الفن كرسومات موزعة داخل صحفها في فترة متقدمة نسبياً.
من أعلام الكاريكاتير في الوطن العربي، ألكسندر صاروخان وجورج البهجوري ومحمد رخا وصلاح جاهين ومصطفى حسين وبهجت عثمان في مصر، وعلي فرزات ورائد خليل وسعد حاجو ويوسف عبدلكي في سوريا، ورشيد الرحموني في تونس، وخالد الجابري في الإمارات، وعبد الله المحرقي وخالد الهاشمي وهشام زباري في البحرين، ومحمود كحيل وبيار صادق وإلياس الديري في لبنان، ومحمود العبداللات وعماد حجاج في الأردن، ورشاد السامعي في اليمن، وناجي العلي من فلسطين، وعلي المندلاوي وحمودي عذاب وكفاح محمود في العراق، وعبد الوهاب العوضي وبدر بن غيث ومحمد ثلاب في الكويت.
وإذا ما أتينا إلى السعودية، فقد ظهرت الرسومات الكاريكاتيرية الساخرة في صحفها منذ الستينيات الميلادية فقط، وبصورة خجولة ومتقطعة، قبل أن تنتظم من عام 1964، عبر رسومات علي الخرجي في صحيفة الرياض. في العقود التالية رسخت أقدامها، لتبلغ ذروتها في الثمانينيات، مع ظهور العديد من الأسماء السعودية اللامعة في هذا المجال، من أمثال محمد الخنيفر وعبد الله جابر ورشيد السليم وعبد السلام الهليل وعبد الله صايل وناصر خميس وحماد الجعيد وإبراهيم الوهيبي وهناء حجار. غير أن المرحوم علي الخرجي يبقى هو الأب المؤسس للكاريكاتير السعودي، باعتراف الجميع، ولهذا ارتأينا أن نخصص هذه المادة للحديث عن سيرته ومشواره الفني، وبصماته الخالدة في هذا الميدان المعبر عن نبض الشارع.
بدأ الخرجي مشواره الفني كرسام في جريدة الرياض، في وقت كانت تجربة الرسم مقيدة إلى حد ما، بينما كانت الصحافة اليومية شبه معدومة، أو غير منتظمة الصدور. حدث هذا بعد أن أنهى الرجل دراسته الثانوية في العراق، وعاد إلى وطنه السعودي. ومن المؤكد أن وجوده في العراق جعله يتأثر بشدة برسامي الكاريكاتير هناك، فاكتسب بعض الخبرة من ملاحقة أعمالهم في الصحف، خصوصاً أنه كان عاشقاً للرسم والنحت.
ولما كانت محظورات الكتابة النقدية في الصحافة السعودية في تلك الحقبة كثيرة، فقد حاول الخرجي قدر الإمكان، وبصورة تدريجية، تجاوز تلك العقبة، من خلال رسوماته الكاريكاتيرية المعبرة، دافعاً بذلك مساحات النقد الاجتماعي إلى الأمام. وفي هذا السياق، يقول زميله الفنان عبد الله صايل رئيس وعضو الجمعية السعودية للكاريكاتير والرسوم المتحركة، في تقرير أعده ونشره موقع «منشور» الإلكتروني (28/3/2017)، إن «الخرجي تميز في تلك الفترة بطرح اجتماعي واكب الطفرة الاقتصادية الأولى (1969 ــ 1980)، وأثرها في الأسرة، إلى جانب الحس النقدي والتوعوي، كما ناقش القضايا الملحة عن طريق شخصية (أبو صالح)، ناهيك عن أعماله السياسية عن القضية العربية». والحقيقة أن الخرجي، كونه أول رسامي الكاركاتير السعوديين من العاملين في الصحافة، عاصر مرحلة تطور الصحافة السعودية على مدى 40 عاماً، وعمل إلى جانب غالبية رؤساء تحريرها، ونجح من خلال موهبته الساخرة وأسلوبه اللاذع، وخلفيته الثقافية في جذب القارئ المحلي إلى هذا الفن، بل وبرز كأول سعودي ينجح في مجاراة رسامي الكاريكاتير العرب.
ومع تزايد القضايا الاجتماعية وغير الاجتماعية المثيرة للجدل، وترسخ مكانة الكاريكاتير لدى القارئ السعودي، وجد الخرجي، ومعه تلامذته من الجيل الثاني من رسامي الكاريكاتير المحليين، في ذلك فرصة مضاعفة للإبداع والتنفيس عن المجتمع وإضحاكه من خلال رسومات تناولت قضايا متنوعة.
ولد «علي بن سعد بن ناصر الخرجي» في بلدة «عشيرة سدير» التابعة لمحافظة المجمعة النجدية، والتي تبعد عن الأخيرة بنحو 60 كلم، والتي يقال أنها سميت بذلك بسبب كثرة شجرة العُشر (بضم العين) على واديها. كان ميلاده في حدود عام 1935، لأب كان يعمل في تربية وتجارة الخيول، متنقلاً لهذا الغرض ما بين نجد والعراق والهند. أراد الأب لابنه أن ينال قسطاً من التعليم الجيد ومستقبلاً أفضل من أقرانه، فأخذه معه إلى العراق، وأدخله مدارس البصرة التي كان يملك بالقرب منها (في قرية المطيحة)، مزرعة لتربية الخيول، طبقاً لما ذكره الكاتب مشعل الحارثي في صحيفة «الجزيرة» (25/8/2022).
وهكذا أنهى الخرجي مرحلتي الدراسة الابتدائية في البصرة، ثم التحق بثانويتها، التي درسه فيها الأستاذ عبد الله القصبي (والد وزير التجارة السعودي ماجد القصبي)، قبل أن يلتحق بمعهد الفنون الجميلة في بغداد، الذي درس فيه تخصص الرسم والنحت. علاوة على ذلك، ساعدته أجواء العراق الملكي السعيدة آنذاك، على الاطلاع على الكثير مما كان يزخر به العراق من ثقافات وفنون ومعارف، وهو ما حوله إلى صاحب خلفية ثقافية ومعرفية غزيرة.
حينما عاد إلى وطنه عن طريق منفذ عرعر، ليبدأ مسيرته الوظيفية، بناء على نصحية تلقاها من صديقه سليمان العمران، تنقل ما بين مسؤوليات عدة، في أكثر من وزارة ومدينة، لكن ذلك لئن تسبب له في بعض المعاناة وعدم الاستقرار، إلا أنه منحه، من جهة أخرى فرص الابتعاث لتطوير نفسه على نحو ما سنتبين.
فقد بدأ العمل أولاً في وظيفة مترجم في إدارة جوازات الأجانب بمدينة عرعر، بعد تعرفه هناك إلى مدير هذه الإدارة آنذاك، الأستاذ عبد الله البسام. وبناء على طلب ابن خالته الفنان عبد الجبار اليحيى، انتقل إلى جدة للعمل بوزارة المواصلات السعودية، حيث عمل بوظيفة سكرتير لمكتب الوزير لمدة عامين، وأثناء ذلك حصل على بعثة دراسية إلى مصر من منظمة اليونيسكو، فسافر إلى القاهرة، والتحق بكلية الفنون الجميلة، التي منحته دبلوم التربية الأساسية/ تخصص وسائل سمعية وبصرية.
وبعد عودته من مصر، عاد للعمل الحكومي كرسام فني لدى مصلحة الطرق بوزارة المواصلات، ليحصل مجدداً على بعثة دراسية إلى مصر، من هيئة الأرصاد الجوية، ليسافر ويدرس وينال دبلوم الأرصاد الجوية، ويعود ويشغل وظيفة راصد جوي.
بعد فترة، طلب الخرجي نقله من وزارة المواصلات إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، فعمل في الأخيرة بوظيفة اختصاصي وسائل سمعية وبصرية. ونظراً لكفاءته وتفانيه، تمّ ابتعاثه مجدداً من قبل وكالة الوزارة للشؤون الاجتماعية، لكن هذه المرة إلى إنجلترا، ومن أجل التخصص المتقدم في مجال الوسائل السمعية والبصرية. وبعد عودته من هناك، أسندت إليه وظيفة مدير قسم الوسائل بوكالة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية للشؤون الاجتماعية، قبل أن يكلف بإدارة مركز الخدمة الاجتماعية بالرياض.
وما بين هذا وذاك، عمل لبعض الوقت كرسام هندسي بوزارة المالية، واختير كأول رئيس لنادي الفروسية بالرياض، وبدأ منذ مطلع الستينيات يرسم وينشر الرسومات الكاريكاتيرية في جريدة «الرياض»، بدعم وتشجيع من رئيس تحريرها السابق تركي السديري، قبل أن ينقلها للنشر في جريدة «الجزيرة»، بدءاً من عام 1980، من بعد منافسة بين الجريدتين على كسبه. علاوة على ما سبق، أقام الخرجي عدداً من المعارض لفن الكاريكاتير خارج بلاده، بل كان أول فنان كاركاتيري يمثل بلاده بفرنسا في السبعينيات، كما أنه استثمر شهرته، المستمدة من رسوماته الساخرة، في اقتحام الإعلام المرئي، من خلال تقديم برنامج «علي بابا» للأطفال في التلفزيون السعودي، إلى جانب برامج إذاعية وتلفزيونية أخرى. واقتحم ميدان التأليف أيضاً، فأصدر أربعة كتب، بدأها بكتاب «أبو صالح والدنيا»، فكتاب «خطوط وكلمات»، ثم كتاب «رسوم كاريكاتيرية»، فكتاب «نهامة»، الذي تناول فيه معالجة قضايا سياسية وتربوية واجتماعية بأسلوب ساخر، مع عرض نماذج لرسوماته ذات الصلة. وصدر عنه في عام 2011 كتاب «الخرجي، 35 عاما من العطاء» لمحمد المنيف.
الملاحظ أن الخرجي بدأ بعزف سيمفونياته الكاريكاتيرية في الصحافة في بادئ الأمر باللونين الأبيض والأسود، لأن صحف تلك الفترة لم تكن تصدر بالألوان، لكنه بدأ في فترة لاحقة باستخدام بعض الألوان المائية الأساسية في أعماله، دون أن يتوسع فيها كثيراً، أي خلافاً لما فعله زميله محمد خنيفر مثلاً.
في عام 2008، بدأت معاناة الخرجي مع المرض، واستمرت حتى يوم وفاته في 17 نوفمبر 2011، حيث تمت الصلاة عليه بعد عصر ذلك اليوم، بمسجد الملك خالد بأم الحمام، ووري جثمانه الثري بمقبرة أم الحمام. وكان من أمنيات الفقيد، تأسيس جمعية أو رابطة لرسامي الكاريكاتير السعوديين، تعنى بشؤونهم، وتلبي تطلعاتهم، وهي الأمنية التي تحققت بالفعل قبل رحيله بعامين، من خلال إطلاق «الجمعية السعودية للكريكاتير والرسوم المتحركة»، والتي يتجاوز عدد أعضائها اليوم المئة عضو.
وفي نوفمبر 2014، ألقيت محاضرة عن حياته وفنه ومسيرته، بمعرض الشارقة الدولي للكتاب، من قِبل المدير الإقليمي لجريدة الرياض، د. علي القحيص، الذي اختتم حديثه قائلاً: «رسومات وأفكار علي الخرجي راسخة بالذاكرة والوجدان، وسوف تبقى خطوطه لا تعرف معنى الرحيل، وهو أول القادمين والراحلين عن هذا الفن».