: آخر تحديث

إشكالية السبب والنتيجة

28
18
30

«وراء كل رجل عظيم امرأة» لا يبدو أنه سبب وجيه بالضرورة، فقد يكون «وراء المرأة العظيمة رجل» لا يقل عنها عظمة. هذا ما أسميه بمعضلة السبب والنتيجة. فليس كل «ما نراه» سبباً مرتبطة بالنتيجة. فمن يدرس خمسة أضعاف الوقت الذي يمضيه المجتهد العادي لا يضمن بذلك تحقيق التفوق عليه بالضرورة.

في المدارس، نلقن أبناءنا بأمثلة تبدو جميلة مثل: «إن تذاكر تنجح»، و«من جد وجد»، و«من زرع حصد»، كلها أسباب لكنها قد لا تكون تلك الصلة المتوقعة بالنتيجة. فعندما خرج رئيس الوزراء البريطاني المحنك ونستون تشرتشل منتصراً في الحرب العالمية الثانية، كان في أوج نجوميته، لكنه سقط في الانتخابات التالية. فرغم نجاحه العسكري والدبلوماسي إلا أن تلك الأسباب لم تكن كافية لإقناع الناخبين بإعادة انتخابه لحقبة الإعمار والازدهار. وهذه سنة الحياة. ولذلك كانت دعوات المصلحين منذ بدء الخليقة «بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب»، مجرد أمنيات لم تتحقق في بلدان تسير خلف ركب التقدم.

وربما يُجَسَّد معنى عدم ارتباط الفعل بالنتيجة المرجوة بوضوح في الحديث الشريف: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخرها في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذاً نكثر؟ قال: الله أكثر» (رواه أحمد). وهذا دليل على أنه حتى الدعاء لا يكون في بعض الأحيان سبباً كافياً لتحقق مراد السائل ممن بيده خزائن كل شيء.

مغالطة العلاقة السببية، تقع حينما يفترض أحدنا على نحو خاطئ أن وجود علاقة بين حدثين يعني تلقائياً أن ذلك الحدث يسبب الآخر. هذا الانحياز يمكن أن يؤدي إلى استنتاجات خاطئة حول كيفية تأثير الأشياء أو الأحداث في بعضها البعض. ويدفع متخذي القرار إلى ارتكاب قرارات مكلفة مادياً ومعنوياً. مثل المبالغة في الإنفاق الإعلاني على شريحة من العملاء لتزيد من تبضعها لمنتجات معينة، ثم نكتشف أنها مضطرة لشرائها لاعتبارات مرتبطة بانفراد الشركة بالجودة أو الاحتكار.

ذلك أن «الارتباط بين شيئين لا يعني السببية». فقد يلاحظ شخص ما أن الناس يستهلكون المزيد من المثلجات (الآيس كريم) في الأوقات نفسها التي تزداد فيها حالات الغرق. هنا يكون من الخطأ الاستنتاج بأن تناول المثلجات يسبب حالات الغرق، بينما الحقيقة هي أن كلا الأمرين يرتبط بارتفاع درجات الحرارة في الصيف.

ومن الأمثلة الأخرى لهذه الظاهرة، الخلط بين السبب والنتيجة، كالافتراض بأن أحد الأحداث سبب للآخر، بينما قد تكون العلاقة بينهما معكوسة أو متعددة الأسباب. مثل الاعتقاد بأن أن النجاح في الأعمال يؤدي دوماً إلى السعادة، بينما قد يكون العكس صحيحاً أو قد تكون هناك عوامل أخرى مؤثرة.

ولذلك يشتهر في علم الإحصاء مفهوم «الارتباط لا يقتضي السببية». وهي مسألة جوهرية في صميم البحث العلمي. فعندما يُلاحظ الباحثون أن هناك ارتباطاً بين قضاء وقت طويل على الإنترنت وتدهور الصحة العقلية، فلا يمكنهم الجزم بأن استخدام الإنترنت هو سبب مباشر لمشاكل الصحة العقلية؛ فقد يميل أولئك الأشخاص إلى تمضية وقت أطول على الإنترنت كوسيلة للتكيف أو الهروب من ضغوطات الحياة. وكذلك الحال عندما يجدون ارتباطاً بين شرب القهوة والنجاح في العمل، ولكن بعد تعمق شديد يتضح لهم أن كل ما في المسألة أن تناول كميات أكبر من الكافيين أمدهم بالمقدرة على البقاء لساعات عمل أطول لتلبية مهام عملهم المضنية أو شالـ«ـdemanding» كما يقال.

إن تجنب إشكالية السبب والنتيجة تتطلب تفكيراً نقدياً وتفادي الاستعجال بالوصول إلى استنتاجات بمعزل عن تقديم تحليل شامل للأدلة والشواهد المختلفة المرتبطة بالموقف.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد