بعد عام كامل من إعمال العقل السياسي الجنوبي والتفكير في واحدة من أعمق القضايا المفروضة وما وصل إليه الوضع في اليمن جنوباً وشمالاً، يتعين على المجلس الانتقالي الجنوبي أن يقرر احتواء جبهة وطنية يمنية في الجنوب ليحرر الشمال من قبضة جماعة الحوثي، لتصبح المسألة بأعلى درجات الحساسية كونها تتصل بتاريخ ما تلا الاستقلال الأول للدولة الجنوبية.
جبهة تحرير ظفار وجبهة تحرير اليمن وحركة التحرير الفلسطينية سبق أن وجدت في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الأرضية الحاضنة لأنشطتها العسكرية والسياسية، والتجربة التاريخية تلاحق العقل السياسي في تقييمها لواقعية اللحظة غير المتوافقة، فالجنوب لم يحصل على استقلاله الثاني بعد، ليأتي قرار احتضان جبهة يمنية يفترض بها أن تكون وطنية تتبنى مشروعاً يستعيد النظام الجمهوري الذي تأسس عام 1962.
وبينما يخوض الجنوبيون نقاشاً عميقاً في هذا الشأن، يعيش الجنوب على وقع إنشاء مجالس مناطقية برؤية جماعة الإخوان، ولا تخفي كوادر حزب التجمع اليمني للإصلاح السياسية وجوهها عن هذه المجالس، فهي تعيد لهم مشروعهم الأصلي باعتبار الجنوب حصتهم السياسية من بعد المؤتمر العربي الإسلامي الذي انعقد في العاصمة السودانية الخرطوم عام 1991. التحولات لا تنفي أن هناك حقائق لم تتغير في شمال اليمن، الذي لم يجد بعد تعريفا واضحا لماهية النظام السياسي، وهذه هي أصل العقدة كما هي أيضاً مفتاحها. فلا يمكن المضيّ في قرار احتضان جبهة وطنية يمنية بينما لا يوجد إطار وطني لليمنيين في شمال اليمن، حيث مازالوا يعيشون على التزاوج التاريخي الذي أنتجه مؤتمر خمر 1965، بعد فشل الانقلاب داخل البيت الزيدي الذي قامت به مجموعة العسكريين على الإمام يحيى حميد الدين.
الشخصيات اليمنية المحسوبة على شمال اليمن ضمن مجلس الرئاسة بتنوعها القبلي والمناطقي وحتى الأيديولوجي لم تقدم للجنوب ضمانات واضحة فيما يختص بمستقبله السياسي، وهذه نقطة مظلمة في مشهد ما بعد إزاحة عبدربه منصور هادي وشريكه علي محسن الأحمر من رأس السلطة الشرعية. غياب الضمانات قابلها تعميق للفساد الحكومي المتراكم من عهد نظام علي عبدالله صالح، وهو فساد حزبي واسع يشمل المؤسسات والأفراد تحوّل إلى الكتلة المسيّرة للبلاد كلها، وهو ما استفاد منه عبدربه وحلفاؤه، وعلى ذلك ورث المجلس الرئاسي ميراثاً متراكماً من الفساد السياسي والإداري استطاعت من خلاله جماعة الإخوان إحكام سيطرتها رغم الممانعة الجنوبية.
التعقيدات هي جزء لا يتجزأ من تاريخ اليمن، بما في ذلك استيعاب أن ما يفترض أنها قيادات وطنية ليست في الواقع حاملة لمشروع وطني، إنما هي صاحبة مشاريع نفعيّة تشتري أكبر قدر من الوقت.
دعوة رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي في جلسة مجلس العموم التي عقدت في عدن مطلع عام 2024 لاحتضان القوى الوطنية اليمنية وتأكيده دعم هذه القوى باعتبارها جبهة تحرر الشمال من الحوثيين، وإن كانتا مفاجأة للقوى الإقليمية إلا أنهما أيضاً مفاجأة للجنوبيين أنفسهم الذين يعيشون في شكوك لها مسبباتها، فلا الإقليم يظهر اعترافاً صريحاً بحق الجنوب السياسي، ولا اليمنيون أنفسهم منحوه هذا الاعتراف الصريح.
إشكالية القبول بجبهة وطنية يمنية يعني تكرارا آخر لتجربة دفع الجنوب ثمنها باهظاً، فالفلسطينيون طعنوا الجنوبيين في صيف 1994، كما أن القوى الوسطى في اليمن سرقت من الجنوب هويته السياسية وألبسته اليمننة وأدخلته في دهاليزها، حتى أنها ضربت كينونته الوطنية بتدخلاتها، مع تغوّل عبدالفتاح إسماعيل ومجموعته حتى تفجرت أحداث يناير 1986. الثمن كان أكثر من عزلة سياسية لأنها صنعت اختلالاً مجتمعياً لم يكن ليحدث في تاريخ الجنوب من عهد السلطنات والمشيخات بغير آفة اليمننة التي شرخت المجتمع حتى استعاد شيئا من هويته بعد حرب العام 1994.
يمنستان هي واقع موجود، لكن يجب على الجنوبيين ألا يعملوا وحدهم على مواجهته، فهذه النتائج ليست مجردة حتى يكون على الجنوب أن يتحمل تبعات التعامل معها منفرداً. والسعوديون أيضا معنيون، هذا إن لم يكونوا هم الأكثر تضرراً من خضوع شمال اليمن لسلطة قوى راديكالية متطرفة. أن يتحمل الجنوب جبهة يمنية لتحرير اليمن، أو حتى تضعف من سلطة الحوثي، في هذا القرار مخاطرة وإن كانت قيادة الانتقالي الجنوبي تراها ضرورة تتحملها أخلاقياً لالتزامها مع التحالف العربي، غير أن هناك قاعدة تقول إن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
تقدير الموقف رغم التعقيدات يتطلب جرأة من قبل القيادة الجنوبية لدفع القوى الإقليمية إلى تحديد موقفها من إمكانية دعمها لجبهة يمنية وطنية تواجه الحوثيين، أو القبول بواقع الحال في شمال اليمن. الجرأة مطلوبة فلن يكون التباطؤ حلاً منطقياً وهو ما يجب أن تتفهمه القوى العربية. لن يدفع الجنوب ثمناً آخر مكرراً لتجربة سابقة، كما يجب ألا تدفع المنطقة ومن بعدها العالم ثمناً للقبول بدولة يمنستان في هذا الجزء الحيوي. الدعوة لمؤتمر دولي يتجاوز القرارات الأممية بخصوص اليمن تبدو مواتية للخروج من إشكالية العقدة الكبيرة فيما يتعلق بالقرار 2216 وغيرها من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن.
اليمنيون الشماليون قبلوا بهذا الواقع، ومخاوف المنطقة والعالم من أن يكون هذا الجزء الجغرافي منتجاً لأيديولوجيات متعصبة ستكون واقعا، وأول طرف سيدفع الثمن هو الجنوب ثم دول شبه الجزيرة العربية. على كل الأطراف أن تتحمل المسؤولية مهما كانت، وما سيكون عليه الوضع ستتحمله الأجيال القادمة، كما تحمل هذا الجيل تبعات التزاوج بين الملكيين والجمهوريين في زمن مضى.
الدروس كافية وتستوجب القرارات الصحيحة، والنظرة القاصرة المبنية على تخمينات وأمنيات هي نظرة مرفوضة، على الأقل من جانب الجنوب الذي دفع عام 1994 وعام 2015 ثمن جرائم حرب ملفاتها لم تفتح بعد. لن يكون الجنوب مستعداً ليكون ضحية مرة أخرى، على العالم أن يدرك الحقيقة ويقبل بواقع الحال، فمع دولة يمنستان هناك جنوب عربي اختار أن يكون وطناً آخر، فهل تخطو قيادة الجنوب هذه الخطوة أم تنتظر؟