دراسة الأقطاب الكهربائية، أو ما وراء النفس وعلم الذكاء الاصطناعي، هي في مجملها، دراسة علمية لحدوث حالات إدراك عقلي بالغة التعقيد، هو البشير بولادة حقبة علمية جديدة، ونذير بالخطر في عالم ينحدر نحو المجهول.
على الرغم من أن البيئة، وبمجموع ظروفها، العلمية والحضارية والمكانية والزمانية، هي التي تتحكم في الإنسان، لكنها في أغلبها من صنع الإنسان نفسه، وبالأخص الجلاء البصري، والتي تعني الإدراك والقدرة على رؤية كل ما هو وراء نطاق البصر. لا أحد يستطيع أن ينكر حجم الإنجازات العلمية التي تحققت على مختلف الصعد في القرن الماضي، ولا تزال تتوالى حتى اليوم، وقد غيّرت حياة البشر بشكل جذري، ونقلتهم من إطار الحياة البسيطة «البدائية»، إلى الحياة المعقدة المملوءة بصخب التقنية الحديثة المتجسدة في الحواسيب، والهواتف المحمولة.
لقد كان الطب في قلب تلك الإنجازات والتحولات الكبرى، وزيادة عدد سكان الأرض تمثل أوضح دليل على ما أبدعه الطب، وما قدمته الصيدلة من أدوية عملت على تقليل الوفيات في المجتمعات المختلفة، فظهرت المدن الكبيرة، وأصبحت إحدى الدول لا تتجاوز مساحتها مئة وأربعين ألف كيلومتر مربع، لكنها تضم نحو مئة وسبعين مليون إنسان. إن هذا الانقلاب الهائل في القيم والمفاهيم وفي أنماط الحياة، قد أكد مصداقية العلم، وقدرته على السيطرة على الطبيعة، وتطويعها لخدمة الإنسان.
ورغم هذا التطور العلمي الكبير، لكن تظل هناك خفايا يقف العلماء حيارى أمامها، ويمثل الخلق في الرحم أحد أعقد المسائل التي لا يمكن للعلم أن يحلّها، فكيف يمكن لخلية لا تُرى بالعين المجردة، لكنها تحمل خريطة وراثية متكاملة، بحيث إنها تكون قادرة على خلق إنسان كامل جديد يحمل نفس صفات وملامح البشر، من دون أي اختلاف في شيء، فلماذا لا تخطئ تلك الخلايا فتأتي بأشكال بشرية متضاربة؟ وما يصدق على البشر يصدق على الحيوان والنبات، كلّ وفق تصنيفه، فمثلاً كيف يمكن لبذرة من شجرة يابسة لكنها ما أن توضع في الأرض حتى تعود إلى الحياة من جديد، وفي داخلها خريطة وراثية كاملة للشجرة نفسها؟ إن هذه المظاهر المعقدة سوف يبقى العلم حائراً أمامها، ولن يجد إجابات شافية حولها، وسوف تبقى من جملة الألغاز الأخرى الموجودة في الطبيعة والكون.
ويمثل الدماغ البشري أحد أكبر تلك الألغاز، فرغم أن الدماغ هو وعاء العقل، لكن العقل غير محصور في الدماغ، بل هو إنسان كامل، فيه روح وجسد، وشعور ولا شعور، وفعل طبيعي، وفعل منعكس، ويقظة ونوم، وأحلام وكوابيس، وصحة ومرض، لكن مؤخراً أعلن «إيلون ماسك» أن شركة «نيورالينك» Neuralink، التي شارك في تأسيسها، أجرت أول زرع لشريحة بحجم العملة المعدنية يمكن وضعها داخل ثقب في الجمجمة. ويمتد منها ما يزيد قليلاً على ألف «خيط» من الأقطاب الكهربائية المرنة، كل منها أرق بكثير من شعرة الإنسان، إلى المادة الرمادية في الدماغ، حيث تراقب النشاط الكهربائي لخلاياه. وسيقوم الذكاء الاصطناعي بعد ذلك بفك تشفير هذا النشاط، وقراءة الإشارات الكهربائية في المخ، وترجمتها إلى لغة مكتوبة.
وقد علق الرئيس الروسي بوتين، عندما سأله الصحفي الأمريكي، تاكر كارلسون، الأسبوع الماضي، عمّا قام به إيلون ماسك، الذي يعمل على العديد من التقنيات المبتكرة، بما في ذلك تقنية الذكاء الاصطناعي، وزرع شريحة في دماغ إنسان، في أمر قال عنه: «ينبغي التفاهم معه، لأن هذه العملية يجب أن تكون قانونية».
ويعرف العلماء أن الأمور أكثر تعقيداً من ذلك بكثير، ولكن اللغز لا يزال قائماً. فكيف يمكن للتفاعلات بين 86 مليار خلية عصبية، والتي تختلف بشكل كبير في شكلها، وخصائصها الفيزيائية الأخرى، أن تسهل عملية التفكير، واتخاذ القرار والحركات؟ ما الذي يمكن أن يتسبب بتعثر هذه الأنظمة، وما الذي يتطلبه الأمر حتى تتعافى؟
إنها أسئلة كبيرة لم يفكر فيها أي إنسان، والإجابات عنها حتى الآن سطحية، ومؤقتة في أحسن الأحوال. ولنفترض أننا نستطيع، بالفعل، التسجيل من مليون خلية عصبية في الدماغ أثناء عمله، وسوف نحصل على الكثير من البيانات، ولكن ما الذي سنبحث عنه؟ هذا ما يجب أن نحصل على فكرة عنه. إن الإحاطة بعمل الدماغ هي أمر ضروري، لأن الخوارزمية التي وضعها المهندسون في شركة «نيورالينك» ينبغي أن تلحظ هذه المسألة حتى تقدم إجابة شافية ودقيقة عن كل ومضة تحدث هناك، ومن دون شك فإن تلك الخوارزمية قاصرة، ولا تقدم سوى بعض الإجابات التي لا تمثل خرقاً علمياً حقيقياً. إن العلم لا يزال عاجزاً عن تفسير سبب حدوث الزهايمر عند بعض الناس دون البعض الآخر، كما أن العلم غير قادر على فهم سبب انخفاض مستوى الذكاء عند بعض الناس، وسبب ارتفاعه عند البعض الآخر، فالأمر قد يرتبط بالوراثة، أو بعوامل اجتماعية معيّنة، كما أن العقل ليس دماغاً فقط. بل هو إنسان عاقل كامل يعيش الحياة بكل تفاصيلها.