هل غير الطيران المسيّر مفاهيم الحروب الحديثة؟

عُرف الطيران المسيّر منذ أوائل القرن التاسع عشر، حيث تشير التجارب الأولية لهذه التقنية في انجلترا عام 1917 ثم لحق بها بعض التطوير من عام 1924 كأهداف متحركة للمدفعية وزاد من أهميتها وحضورها إبان الحرب الباردة، لا سيما بعد سقوط طائرة التجسس الأمريكية U-2 فوق روسيا عام 1960 وكذلك إبان مشكلة الصواريخ الكوبية 1962، وإن كان الإستخدام الفعلي لهذه المسيّرات كان في الحرب الفيتنامية.

ثم استخدمت في حرب أكتوبر عام 1973، وإن كانت لم تحقق نتائج واضحة، نظراً لضعف إمكانات هذه الطائرات في ما يتعلق بالتحكم وسرعة المناورة، إلا أن المشاركة الفعلية لهذا النوع من المسيّرات استخدمته إسرائيل في معركتها في سهل البقاع اللبناني، حيث كان لها أثر واضح في تغيير نتائج المعركة لصالح الجانب الإسرائيلي.

ومما يجدر ذكره أنه كان هناك استخدامات مدنية للطائرات بدون طيار في أعمال المراقبة وتصوير ومكافحة الحرائق والاستخدام للتصوير والمراقبة أثناء الحرائق الكيميائية أو الخطرة التي يُخشى على الأفراد التعامل معها، فيُستخدم طيران الدرون للتعامل مع هذه الأحداث لتجنب الخسائر البشرية.

لماذا الطيران المسيّر؟
هذا السؤال المهم جعل خبراء الصناعات العسكرية يفكرون مبكراً لإيجاد سلاح يمكن وصوله لأراضي العدو دون اكتشافه، أو لِنقُل دون حدوث خسائر بشرية لاسيما أن الطائرات الحربية يسهل رصدها من قبل منظومات الرادار الثابتة أو المتحركة مما يعطي الجيش المستهدف الوقت لتجهيز المضادات الأرضية والأسلحة الدفاعية. لذا كان الطيران المسيّر خياراً مهماً، لا سيما إذا علمنا أن تكلفته المنخفضة وإصاباته المؤثرة تجعله خياراً هاماً في المعارك، فيمكن بقيمة طائرة واحدة من طراز F15 إيغل البالغ 28 مليون دولار شراء 1000 طائرة بدون طيار، إضافة إلى إستهلاك الوقود والصيانة والقوى البشرية مما يجعل الطيران المسيّر اقتصادياً وسهل النقل والاستخدام والتوفير في التكاليف، إضافة إلى سرعة الاستخدام دون تدريب طويل مقارنة بالطائرات التقليدية التي تتطلب وقتاً طويلاً للتدريب والاستخدام.

الدول المنتجة
مع تعقد الحروب الحديثة وتطورات آلياتها وإمكاناتها والتسابق نحو تحقيق التفوق الجوي للدول، خصوصاً مع تطور الحروب الإلكترونية والمدعومة بتقنية الأقمار الصناعية والذكاء الإصطناعي، كان السبق للولايات المتحدة الأميركية التي احتكرت صناعة هذا النوع من الطيران، الا أنَّ التطور والتسابق جعل الكثير من الدول تسعى لتطوير وتصنيع هذه التقنية حتى أصبحت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وإسرائيل من أوائل الدول التي برعت في صناعة هذا النوع من الطيران المسير. إلا أنه في عام 2010 فاجأت الصين العالم بالكشف عن 25 موديلاً من الطائرات بدون طيار، وفي العام 2005 كان عدد الدول التي تنتج هذه الطائرات يزيد عن 76 دولة حول العالم، ومن أسباب ازدياد الدول المصنعة لهذه الطائرات هو أن هذه الطائرات صنعت لتسقط في أرض الخصم غالباً، وقليل من الطائرات التي تمتلك تقنية تنفيذ المهمة والعودة، الا أن الغالب من هذه الطائرات تتبع سياسة (خرج ولم يعد) فهي تستهدف الهدف المقصود لتضربه بالحمولة المثبتة عليها، وهذا ما يجعل إمكانية الإطلاع عليها والاستفادة ونقل تقنيتها أمر سهل كما حدث مع الطائرة الأميركية RQ4 غلوبال هوك التي استهدفها الجيش الإيراني بصاروخ أرض جو في 20 حزيران (يونيو) 2019 أطلقته القوات الجو فضائية التابعة للحرس الثوري الإيراني، ولعل سقوط هذه الطائرة في يد الحرس الثوري الإيراني سرّع في تطوير الطيران المسيّر الإيراني الذي شهد تطوراً كبيراً لتصبح إيران من أكثر الدول تصنيعاً لهذا النوع من الطائرات بمسميات وتقنيات ومسافات مختلفة، وإن كان نظام المحرك والملاحة والتوجيه قريب من نظام الطائرات الأميركية، وإن كان هناك استيراد للمحركات من جهات مختلفة مثل روسيا وألمانيا وكوريا الشمالية، مما جعل إيران تنوع صناعاتها في هذا المجال وتزّود الكثير من أذرعها بهذه الطائرات التي تم رصدها في العراق وسوريا ولبنان وغزة واليمن إضافة إلى أوكرانيا في حربها مع روسيا، حيث استوردت روسيا العديد من الطائرات الإيرانية.

الطيران المسيّر في الحروب الحديثة
استخدمت المسيّرات في عدد من الحروب الحديثة في اليمن وسوريا وفي النزاع بين أرمينيا وأذربيجان وأخيراً في الحرب الروسية الأوكرانية، حيث برز دور هذه المسيّرات في تحقيق أهداف استراتيجية خلف خطوط الجيوش، وفي نفس الوقت التكاليف المنخفضة مقارنة بالصواريخ الاستراتيجية باهظة الثمن، أو قذائف المدفعية أو الصواريخ المحمولة على الطيران الحربي.

ففي حرب اليمن استخدمت ميليشيا الحوثي الإنقلابية عدداً من الطائرات المسيّرة الإيرانية الصنع لاستهداف عدد من المنشآت المدنية والاقتصادية في المملكة العربية السعودية والداخل اليمني، حيث جوبهت بمنظومات الدفاع الجوي السعودي التي حيّدت خطرها بنسبة 95 بالمئة، ولم تحقق أياً من أهدافها إلا ما يتبع ذلك من بروباغندا إعلامية تحقق للحوثي بعض الانتصار الوهمي للاستهلاك المحلي أمام الضربات والانكسارات التي مني بها على يد قوات التحالف العربي والجيش اليمني، وتنوعت هذه المسيّرات مثل طائرات شاهد وأبابيل ومهاجر وغيرها من المجموعات المختلفة في السرعة والحمولة والارتفاع والمسافة التي يتولى عدد من الشركات الإيرانية صناعتها وتزويد عدد من أذرع إيران بنسخ منها، وإن كانت حققت نجاحات داخل اليمن كاستهداف قاعدة العند والعديد من التجمعات نتيجة ضعف الرصد الأرضي من قبل الجيش اليمني، وما زلنا نشاهد مثل هذه الاستهدافات الحوثية باستخدام الطيران المسير في عملياتها لاستهداف الملاحة في البحر الأحمر اليوم.

إقرأ أيضاً: اتجاهات التكنولوجيا الواجب متابعتها في عام 2024

كذلك، شاهدنا الطيران المسيّر يلعب دوراً محورياً في الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، والتي استطاعت فيها أذربيجان السيطرة على إقليم قره باغ، وهو ما لم يكن ممكناً لولا الدور الفعال للطيران المسيّر الذي تم تزويد أذربيجان به من قبل تركيا، حيث أمدت تركيا أذربيجان بمجموعة من طائرات "بيرقدار"، وهو ما أعطى التفوق الجوي للقوات الأذرية الذي أدى بدوره إلى تفوقها على خصمها القوات الأرمينية التي خسرت الحرب، وهذا يؤكد على أن من يسيطر على الجو يكسب المعركة. إلا أن بروز الدور المحوري الفعّال لسلاح الطيران المسيّر قد اتضح جلياً في الحرب الروسية الأوكرانية، فعندما اندلعت هذه الحرب كان الرّهان على الترسانة العسكرية الروسية الضخمة من طيران وقوات بریة وبحرية ضاربة كان يعتقد أن الحرب يمكن حسمها في أسابيع قليلة، إلا أن عدداً من المتغيرات فرض نفسه على أجواء المعركة، وغير من مفاهیم الحرب الحديثة. وقد أشار تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" إلى أن المسيّرات الانتحارية ستصبح عنصراً أساسياً في النزاعات المسلحة الحديثة، وقد برز دور المسيّرات في الحرب الروسية الأوكرانية في الاستطلاع والاستهداف، كما كشفت عن نقاط الضعف لدى الجيشين المتحاربين، فقد شكل دخول المسيّرات التركية إلى جانب أوكرانيا تحولاً مهماً في مسار الحرب خلال أشهرها الأولى، ثم دخلت المسيّرات الإيرانية إلى جانب روسيا لترسم واقعاً جديداً لمصلحة روسيا، وإن كان الدعم الغربي اللامحدود لأوكرانيا حقق الكثير من النجاحات، حيث استُهدف الكرملين بطائرة مسيّرة، وتم استهداف الجسر الرابط بين روسيا وشبه جزيرة القرم، الذي يُعد من أخطر النقاط الاستراتيجية التي تقلق روسيا بهذا الاستهداف، كذلك تم استهداف عدد من المواقع الهامة في مدن روسية ومطارات هامة، مما شكل ضغطاً قوياً على الأداء الروسي وحدا بقوات فاغنر للتقهقر ثم الانسحاب تحت ضربات الطيران المسيّر الأوكراني، في ظل عدم وجود سلاح جو أوكراني فاعل ومضادات أرضية تواجه الهجمات الروسية.

وقد سعت روسيا لتكثيف استخدام الطيران المسيّر في هجماتها على أهداف منتقاة ومركزة في العمق الأوكراني، وقال الخبير العسكري البريطاني جاستن برونك لموقع سكاي نيوز عربية إن الطائرات الإنتحارية مثل" شاهد 136 الإيرانية توفر طريقة رخيصة نسبياً لشن هجمات طويلة المدى على أهداف ثابتة باستخدام نظام الملاحة بالأقمار الصناعية أو الرادارات المعادية، كما أضاف برونك: "إن التشويش على نظام تحديد المواقع العالمية للملاحة يصعّب مهمة اعتراضها باستخدام مدافع رادار قديمة الطراز مضادة للطائرات مثل جيبارد الألمانية". أمَّا صامويل بينديت، الخبير الأميركي في شؤون الجيش الروسي والأنظمة غير المأهولة، فيقول إنَّ "طائرات شاهد الإيرانية لدى الجيش الروسي تسبب الفوضى بأوكرانيا بالرغم من نجاح دفاعاتها في التصدي لها"، ويضيف قائلاً: "الآن لدى الروس أسلحة رخيصة وفـيرة تذكر الأوكرانيين بأن سماءهم ليست آمنه، علاوة على أنه سلاح نفسي قوي للغاية بيد الروس".

إقرأ أيضاً: بوب مارلي الذي تنبأ بغزو روسي!

إذا، نلحظ أننا أمام حرب تقنية يتعامل فيها المقاتل بلوحة التحكم أكثر من الزناد، ويتابع الشاشة أكثر من متابعة أرض المعركة، فهي حرب إلكترونية تقنية إذا طالت فسيدخل الذكاء الإصطناعي والاقمار الصناعية وتصبح الحرب أكثر تعقيداً وأكثر كلفة وأبعد عن التوقف! وهذا ما تم رصده مؤخراً من خلال الضربات التي تعرضت لها العاصمة الروسية حيث تقول تقارير إن مصنعاً لقطع غيار الصواريخ في بلدة ليوبرتسي خارج موسكو أصيب، کما قال عمدة موسكو سيّرجي سوبيانين عبر قناة تلغرام إن المسيّرات فوق ليوبرتسي أسقطت دون التسبب في أي أضرار أو إصابات، مما دعا إلى تأجيل عدد من الرحلات الجوية من مطار موسكو وإلغاء بعضها. وقال حاكم منطقة كورسك رومان ستارفويت إنَّ مبنى سكنياً ومبنى إدارياً أصيبا في بلدة كورتشاتوف القريبة من منشأة كورسك النووية حيث كان يدور الصراع في منطقة باخموت وفي غرب منطقه زابوريجيا.

وقد زودت الولايات المتحدة أوكرانيا بنحو 700 طائرة مسيّرة من طراز سويتش بليد كاميكازي، ما أحدث تغيراً في مجريات العمليات العسكرية، حيث يقول خبراء إنَّ أوكرانيا استخدمت طائرات كاميكازي بدون طيار في مهاجمة قاعد عسكرية روسية في غرب شبه جزيرة القرم وقاعدة جويه بالقرب من سيفاستوبول وعدد من السفن في ميناء سيفاستوبول.

كما أنَّ لهذا الطيران المسيّر مهمات جديدة غير إحداث الأضرار أو الإصابات، وهي اكتشاف مواقع العدو وأماكن تواجد قوات دفاعه الجوي ومواقع مراصده المدفعية والصاروخية عن طريق إرسال طائرات درون تجارية صغيرة  قليلة الكلفة خفيفة الحمولة مثل طائرة مافيك DJ13 التي لا تتجاوز كلفتها 1700 جنيه استرليني، ولكنها تحدث إرتباكاً في صفوف العدو ليكشف عن أماكن تواجده، وهذا من العوامل المهمة في مجريات حـسم المعركة.

من هنا، وبعد هذا السرد المقتضب، نستطيع القول إنَّ الطيران المسيّر بدون طيار قد فرض نفسه كمتغير حاسم في مفاهيم الحرب الحديثة، وأعتقد أن الدول وصناع القرار قد أدركوا أهمية هذا السلاح، لذا بدأت معظم الدول تتجه لتصنيعه وإيجاد سلاح تابع للقوات الجوية باسم "قوات سلاح الطيران المسيّر"، وايجاد الكوادر البشرية المدربة عليه واختيار العناصر المناسبة لإدارته والعمل على استقطاب الخبرات العالمية لتصنيع منظومات متنوعه منه مما ينذر بأن الحروب القادمة ستکون حروب مسيّرات، وأن الطيران الحربي المكلف في قيمته وحمولته وتدريبه وكوادره البشرية سيتم الإحتفاظ به قدر الإمكان للضرورة القصوى.

من إيجابيات هذا السلاح أنه يمكن التنصل من تبعاته، حيث يتم اطلاق الطائرة من قمة جبل أو من على عربة صغيره أو باليد لتشق طريقها وتحقق هدفها ويمكن للجهة المرسلة نفي المسؤولية عنها.

إقرأ أيضاً: هنغاريا وكوشوت الأمس هما أوكرانيا وزيلينسكي اليوم!

كما أن قدرة هذا الطيران على التخفي والطيران على مستوى منخفض جداً يجعله يفلت من موجات الرادار، وتبقى الرؤية بالعين المجردة هي الوسيلة الوحيدة حالياً لاكتشافه وقد رأينا فشل نظام بانتسيّر الروسي في إعتراض الكثير من الطيران المسيّر الأوكراني وهذا سيدعو الدول الصناعية للسيّر حثيثاً نحو إيجاد منظومات دفاعية قادرة على اكتشاف الأهداف الصغيرة بحجم الطائرات الدرون الصغيرة، هذا إذا علمنا أن شركات تصنيع طائرات الدروزنز للأغراض العسكرية والتجسسية والاستطلاع ستعمل على إنتاج طائرات درونز من مواد لا تصدر موجات إشعاعيهة يمكن لأي رادار التقاطها، وبالتالي سیکون مستقبل الطيران المسيّر محفوفاً  بالمخاطر مع تطور التقنية واستخدام الذكاء الاصطناعي والأقمار الصناعية في الرصد والتوجيه، مما يشكل مفهوماً جديداً في الحروب الحديثة، قد يصل إلى أن تتخلص الدول من الكميات الضخمة والمهولة من أرتال الدبابات والمعدات العسكرية التي رأيناها تغوص وتتيه فى الأوحال والغابات والرمال ويتم اقتناصها بسهولة، وهذا ما نراه في الحرب الروسية الأوكرانية من إقدام دول الناتو على التخلص من كميات كبيرة من الحديد المخزن على شكل دبابات ومدافع ومعدات ثقيلة، ربما أدرکوا أن مستقبلها في الحروب لم يعد مشرقاً، وأن الرّهان أصبح على التقنية والتكنولوجيا الحديثة ومن أهمها الطيران المسيّر بدون طيار والذي سيشاركه أيضاً الزوارق المسيّرة بدون ربان والتي بدأت تدخل ضمن القوات البحرية وتحدث دماراً هائلاً في سلاح البحرية والسفن والفرقاطات العملاقة الضخمة ولا تستطيع ردع هذه "الأسماك" المتفجرة. وقد رأينا في معرض الدفاع العالمي الثاني الذي عُقد بالرياض بالمملكة العربية السعودية في  الخامس من شباط (فبراير) عام 2024 الذي عرضت فيه كثير من الدول المشاركة أنواع متعددة من الطيران المسير من ضمنها المملكة العربية السعودية التي عرضت عدة أنواع من ضمنها طائرة قصواء وشاهين مما يعطي دلالة على أهمية ودور هذا النوع من السلاح في الحروب الحديثة.