دخل العِراقيون، منذ 1979، في لُجةِ الحَيرة، ومازالوا في اللُّجةِ، فالنّظام السّابق لم يترك منطقةً وسطى، بعد إفراغ البلاد من العقل السّياسيّ. فهل تجدون دولةً تستغني عن عقلٍ قانوني وسياسيّ مثل رئيس الوزراء عبد الرّحمن البزاز(ت: 1973) مثلاً، يُسجن ويُهان، داخل المعتقل الرّهيب «قصر النّهايّة».
كان مِن الصَّعب، على المغلوبين، مِن معتقلين وذوي معدومين ومهجرين، اتخاذ موقفٍ بين النّارين، نار النّظام وطغيانه ونار الحروب مع الخارج. بالمقابل، هل يُلام مَن يحن على النِّظام الكاسر نفسه، بعد الخديعة الكبرى، وما أثمرت إطاحته بالغزو، وتشكيل فصائل الموت، تتحكم بالعراق؟! فما حصل، بعد (2003)، يعطي كلّ الحقّ لمن ينسى موجعات السَّابقين، لأنَّ بأُفول الأمل يسود اليأس، لا يُلام ذوو المخطوفين والمغتالين والمشردين، إذا رأوا السّابقين أرحم وأخف، ففي الظّلام تتساوى الأشياء. أقول: مَن يتجاهل الحَيرة، وحده المستفيد من النِّظامين، فهناك طبقة تسبغها النّعمة، قبل وبعد 2003. غير أنَّ النّوادر، مَن استشعر الخديعة، واعتزل ما سيقطفه مِن ثمار معارضته.
كان المحامي والدّبلوماسيّ العِراقيّ رياض اليَّاور(1940-2024)، مِن النّوادر، ما إنْ شم المحاصصة الطّائفيّة، حتى ترك المعارضة والسّلطة اللاحقة جميعاً. فإذا كان أحمد الجلبيّ (ت: 2015) رأساً للشيعة في المعارضة، ولعب الدّور، مشيداً «البيت الشّيعيّ»، ولم يشعر بخطئه الفظيع إلا بعد «خراب البَصْرة»، وتجاهله مِن قِبل مَن أتى بهم، فكان الآخرون يرون برياض اليّاور رأس السُّنة في المعارضة، لكنَّ الأخير لم يحسب هذا الحساب، ولم يُشيد بيتاً سُنيَّاً.
كان يتوقع إزالة نظام، لم يعد يصلح محلياً ودوليّاً، وبزواله ستشرق شمس العمران، لكنه استشعر خديعة وراثة هذا النّظام مبكراً، ورثته حكومات لا حكومة واحدة، وجيوش لا جيش واحد، وإلا كان رياض اليّاور رئيساً بلا منافس، لو تغاضى عن الخديعة.
عندما طُلب مني العمل في «المؤتمر» (جريدة المعارضة)، محرراً لملفها الثّقافيّ (نهاية التِّسعينيات)، أشعرني الصّديق مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء فيما بعد، لمقابلة قطبيّ الشّيعة والسّنة، الجلبي واليَّاور، ففوجئت باستفساراتهما عن مقالات المعتزلة، ومسألة «خلق القرآن»؟ دون الإشارة إلى الجريدة، فسرني ذلك، وأنا أمام سياسيين مثقفين لإدارة العراق الجديد، وكان الياور يلح بالاستفسار، وتمنى استمرار الجدل في الأفكار، ولما قلتُ: سأعمل في الثّقافة لا السّياسة، كان جوابه: «هذا ما نريده».
لكنها فترة وجيزة، ويغيب اليّاور، بعد إعلان مظلوميات الطَّوائف، فالمحاصصة بدأت حتى داخل الجريدة نفسها، ما لا يتفق مع ثقافته العابرة للطوائف والقوميات. فلم يبق ذلك القوميّ حريصاً على شعارات ساهمت بتدمير العراق، إنما تحول كليةً إلى الوطنيّة الخالصة.
كان اليَّاور يعلم أن معارضته وغيره لا تُسقط الخصم، وإذا كانت المصلحة الدّوليّة، مِن وجهة نظره، تتفق لتحقيق الهدف، ليكن استثمارها عراقيَّاً، بهذا يدرك أكذوبة: إنَّ الشّهداء، والمحاربين للجيش العراقي، خلال حرب السنوات الثماني، هم من أزاحوا النّظام، بينما دخلوا خلف الدّبابات، رافعين صوراً ورايات مستوردة، مطالبين العراق بدفع خسائر الحرب.
كان إسقاط النّظام أميركيّاً خالصاً، لا فلان وفلان، هذه حقيقة، والقول لصاحب قصيدة: «أتيتُ بمنطق العربِ الأصيلِ»، أبي الطَّيب (قُتل: 354ه): «وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ/ إِذا اِحتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ»(العَرف الطّيب).
عندما قُضي على ثورة الزَّنج بالبَصْرة (255-270هجريّة)، وكادت تعصف بالخلافة العباسيّة، ادعى الكلّ، هو صاحب الانتصار، فقيل: «كيف ما شئتم قولوا/ إنما الفتحُ للولو» (المسعودي، مروج الذَّهب)، ولؤلؤ كان غُلامَ والي مصر، وقائد الجيش القادم مِن هناك، لمواجهة صاحب الزّنج مع الجيش العباسيّ. أقول: لا كتائب ولا دُعاة ولا آيات ولا عصائب «إنما الفتح للولو»! لا تكذبوا، فإن للتاريخ بصراً وسمعاً. ليت اليّاور ترك شهادةً، ولم يكتف باستشعار الخديعة.