على الرغم من أنه أحد البحرينيين الذين قاموا بتجديد الأغنية البحرينية، وتقديم ألحان جميلة من صنعه لقصائد كان يختارها بعناية، سعياً وراء إمتاع الجمهور بأعمال غير تقليدية وذات خصوصية من التراث، إلا أن الفنان الراحل عبدالله سالم بوشيخة، لم ينل حظه من التكريم، بل أن من يبحث عن مواد مكتوبة عن سيرته وآثاره وجهوده الفنية سيفشل في العثور عليها، وإن عثر على شيء فسيجده قليلاً ولا يفي بكتابة بحث عنه. وهذا ما واجهته شخصياً وأنا مقبل على كتابة هذه المادة عن رجل طرق كل الألوان الغنائية وبذل محاولات مضنية لإخراج الأغنية البحرينية من لباسها التقليدي القديم في الزمن الصعب ذي الإمكانيات البسيطة والأحوال المعيشية المتواضعة.
ولد بوشيخة سنة 1932 بفريج بن عجلان بمدينة المحرق لأسرة متوسطة الحال كان ربها يعمل في الغوص شأنه شأن كل أقرانه حينما كانت البحرين تعيش على اقتصاد الغوص على اللؤلؤ والتجارة البحرية المحدودة، وبالتالي فهو أحد الذين عاصروا وتأثروا برواد الصوت البحريني الأوائل من أمثال الفنانين محمد بن فارس (1895 ــ 1948) وضاحي بن وليد (1898 ـ 1941) ومحمد زويد (1900 ــ 1982).
لم ينل بوشيخة من التعليم سوى مبادئ القراءة والكتابة في أحد الكتاتيب التقليدية بالمحرق على يد «مطوع»، إذ يروى أنه لم يكن شغوفاً بالتعليم قدر شغفه بالطرب، وهو ما جعل والده يأخذه معه للغوص على ظهر إحدى السفن التابعة للنوخذة «بن هندي» في سن العاشرة. وأطاع والده في المرة الأولى، لكنه رفض الذهاب معه في المرة التالية، ربما لأنه لم يجد نفسه في امتهان أعمال الغوص الشاقة ومسؤولياتها. وهكذا نجده يكرس وقته في تلك السن المبكرة لهواية الغناء والطرب، خصوصاً بعد استماعه لأغاني محمد بن فارس، وضاحي بن وليد، ومحمد زويد، ومجايليهم من خلال الإسطوانات المنتشرة في تلك الحقبة. ولأن أسرته كانت معترضة على تلك الهواية، راح يمارسها في السر.
اضطرته ظروفه المادية العسيرة آنذاك للبحث عن عمل يوافق شغفه، فسافر لأجل ذلك إلى المنطقة الشرقية من السعودية في منتصف الأربعينات، لكنه عاد سريعاً والتحق بالعمل في منزل زوجة الشيخ عبدالله بن عيسى بن علي آل خليفة، الذي كان بيت أدب وشعر. وفي هذا البيت تعلم بوشيخة الشعر بشكليه الفصحى والنبطي، وفيه التقى بمن كان في سنه ويعمل بنفس وظيفته وهو المرحوم عبدالكريم فرج (والد المطرب القطري من أصول بحرينية فرج عبدالكريم) الذي كان وقتها من مطربي البحرين الشعبيين، فربطتهما صداقة وطيدة عمادها عشق الغناء والطرب. وفي سن الثامنة عشرة تزوج من إحدى الفتيات.
أورد الفنان البحريني إبراهيم حبيب، الذي عرفه وعشق فنه، في الجزء الأول من كتابه «رواد الغناء في الخليج والجزيرة العربية» الصادر عن دار الأيام سنة 2003 ما قاله بوشيخة في مقابلة تلفزيونية يتيمة أجريت معه في سبعينات القرن الماضي، عن كيفية تعلمه العزف على العود فأخبرنا أنه في فصل الشتاء كان بوشيخة ينتقل من المحرق إلى الرفاع الغربي، وهناك كان يجد وقت فراغ طويل، فاستغله في صناعة عود من الصفيح شد عليه أوتاراً من خيوط النايلون، وأخذ يتعلم عليه العزف بمساعدة زميله عبدالكريم فرج، ومطرب آخر غير معروف كثيراً هو حسن بن كحلان الذي كان يغني في دار وجدي بالمنامة وتوفي في السبعينات.
وفي المقابلة نفسها أخبرنا أيضاً أن أول آلة عود حقيقية يمتلكها اشتراها من دكان «سيد شبر» بالمحرق وهو في سن الخامسة عشرة، وأنه حينما ذهب إلى هناك لشراء عوده الأول التقى للمرة الأولى بالفنان محمد بن فارس، وسلم عليه فتمنى له الأخير التوفيق، حيث كان محمد بن فارس من الذين يجلسون ويترددون على ذلك الدكان بشكل يومي.
كان افتتاح إذاعة البحرين اللاسلكية في 21 يوليو 1955، بمثابة خبر مفرح لبوشيخة وأقرانه من الفنانين، بل شكل شعاع أمل له نحو الشهرة والانطلاق. وهو لئن تمكن من اقتحام الإذاعة ونجح في تسجيل أول أغنية له في عام 1957 وهي سامرية «يا زيد لو شطت بنا عنكم الدار/ لا تحسب أن القلب ينسى عشيره» من ألحانه وكلمات الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة، فإن الأغنية التي فتحت له أبواب المجد وكانت سبباً في شهرته ونجاحه وتميزه هي أغنية «شبعنا من عناهم وارتوينا/ وعند رسوم منزلهم بكينا» التي كتب كلماتها شهيد الحب العذري في الخليج «محمد بن جاسم بن عبدالوهاب الفيحاني»، ووضع لها بوشيخة لحناً رائعاً يتناسب مع أبيات القصيدة المليئة بالشجن والشكوى ورثاء الحال على فراق الحبيب.
والغريب أن هذا العمل الرائع سجله بوشيخة أولاً على أسطوانة فلم ينجح، ربما بسبب عدم تعود الجمهور على الأعمال الموسيقية غير التقليدية، أو ربما بسبب قلة أعداد من كان يمتلك أجهزة الغرامون آنذاك، غير أن الأغنية حققت نجاحاً مدوياً بعد أن سجلها صاحبها في الإذاعة، فكان بثها من الإذاعة خير دعاية لتلك الأسطوانة وغيرها من أسطوانات بوشيخة كأسطوانة أغنيته الأخرى «هاضني وأحدث شجوني».
بعد ذلك راح اسم بوشيخة يتردد بقوة في الوسط الفني البحريني والخليجي، خصوصاً بعد أن غنى في حفلة جماهيرية نقلتها إذاعة البحرين على الهواء لمستمعيها داخل البلاد وفي الأقطار الخليجية المجاورة، حيث أدى في تلك الحفلة، التي واجه فيها الجمهور لأول مرة، أغنيات: «شبعنا من عناهم»، و«هاضني وأحدث شجوني»، و«يازيد لو شطت بنا عنكم»، و«هل من تلا يا خبر»، و«عاشر الأحرار»، وكلها من ألحانه. وهذا يقودنا للحديث عن ميزة تميز بها وهو حرصه على أن يلحن لنفسه ولا يغني من ألحان غيره، على غرار ما كان يفعله محمد بن فارس، وعلى نحو ما فعله فريد الأطرش. وكانت هذه الميزة أو الخصوصية وهذا الاعتزاز بألحانه نابعاً من إيمانه بأنه الأقدر على تلحين ما يناسب صوته وإمكانياته الفنية، لاسيما وأنه كان حريصاً على تطوير الأغنية البحرينية سواء من ناحية النغمة أو الكلمة بدليل أنه استحدث ألحاناً جديدة وقدم نصوصاً لم تغن من قبل لشعراء من أمثال الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة، والشيخ محمد بن عيسى آل خليفة، ومحمد بن جاسم بن عبدالوهاب الفيحاني، وحسن بن صالح الرويعي، ويعقوب العريفي، وعبدالرحمن الشملان، وحسن كمال، وسلمان الصباغ، وسعيد العماني، وصالح الدوخي، ويوسف المنيع، وبديوي الوقداني العتيبي، وغيرهم.
كتب الفنان إبراهيم حبيب، في كتابه آنف الذكر ما مفاده أن الفنانين البحرينيين المعاصرين لبوشيخة وهما علي خالد، وأحمد خالد، الذين اشتهرا بأداء الصوت على طريقة مدرسة محمد زويد لم يحاولا تلحين أغانيهما عدا بعض الأغنيات القليلة التي لا تذكر، لكن بوشيخة اختلف عنهما كثيراً، فقدم كل أغنياته من تلحينه. وقد تناقشت معه في هذا الأمر فقال لي إنه أراد أن يكون له رصيد خاص به، وقال إنه يعتقد بأنه ملحن جيد يستطيع أن يقدم أغنيات ناجحة، وأضاف: «أنا أميل إلى الأغنية أكثر من غناء الصوت ولذلك يجب أن أطرح أغنيات خاصة بي» وقد علق حبيب قائلاً: «وهذا رأي صائب أعطاه أهمية وجعله يأتي في الأهمية بالنسبة للغناء الشعبي البحريني في المرتبة الثانية بعد محمد بن فارس الذي اعتز بألحانه ولم يغن ألحان غيره».
وربما كانت ميزة بوشيخة الأخرى أنه خالف مجايليه من فناني عصره ممن حاولوا بحرنة الأغنيات العدنية والحضرمية واليمنية بدءاً من أواخر الثلاثينات وخلال عقد الأربعينات، فكانت أعمالهم مجرد نقل من هنا وهناك وتسجيلها على أسطوانات بأسمائهم دون أن تكون لتلك الأعمال صلة بالغناء البحريني، إذ لم يقدم بوشيخة على شيء من ذلك، بل حرص على نسف تلك الظاهرة بتقديم الجديد النابع من تراث الفن الغنائي البحريني العريق.
فعلاوة على الأغاني التي أتينا على ذكرها، قدم مجموعة من الأغاني التي تبث إلى اليوم من محطات الإذاعة في البحرين والأقطار الخليجية المجاورة مثل أغاني: «ناسي ولا يدري» من كلمات حسن بن صالح الرويعي، و«حلو وجميل.. القعدة حلوة وجميلة» من كلماته والتي تعتبر أول أغنية بحرينية يوظف فيها إيقاع الطنبورة وفن الليوة، و«قصت حبالك من عقب وصلها مي» من كلمات محمد الفيحاني والتي تساوت في الشهرة مع أغنية «شبعنا من عناهم»، علاوة على عدد من الأغاني الجميلة التي لا يعرف كتاب كلماتها مثل «أشكي لمين»، و«روح وانساني»، و«العود ليمن ترنم»، و«كل المحبة لك»، و«الأول تحول»، و«قوللي كلمة»، و«يوم بغيت ودي»، و«ليش هجرتك»، و«يا زين انصف»، و«يا سايرين البديع».
وفي مجال فن الصوت، قام بوشيخة بتطوير وغناء عدد من الأصوات مثل: «مر بي واحترش راعي الوجه الجميل»، و«برزت كالشمس»، و«يا من هواه أعزه وأذلني»، من كلمات الإمام سعيد بن أحمد البوسعيدي. كما غنى بوشيخة بعض المقامات التي تؤدى في العراق على مقام «السيكة» لكنه استطاع تطويعها وتوظيفها في الموال البحريني الشعبي بطريقة مغايرة لطريقة الفنان محمد زويد.
ومن أهم المقامات التي غناها: «أهاتف طاف بي في الليل وانقلبَ/ أم بارق لاح في الظلماء واحتجبَ»، و«يا من نهيض»، و«تركت حبيب القلب لا عن ملامة»، ومقام وأغنية «أيامنا والليالي كم نعاتبها/ شبنا وشابت وعفنا ببعض الأحوال»، من كلمات بديوي العتيبي.
يصف إبراهيم حبيب، صوت بوشيخة بالصوت القوي الممكن سماعه بوضوح دون الاعتماد على الميكرفون، ويدلل على ذلك بواقعة حدثت في منتصف الستينات وكان شاهداً عليها. يقول إنه شاهد بوشيخة لأول مرة في زفاف خاله يعقوب بن يوسف بن ناصر العسمي، الذي كان صديقاً مقرباً لبوشيخة: «كان الزواج في بيت من بيوت المحرق ورأيت جماهير كبيرة تنتظر وصول بوشيخة الذي كان بيته قريباً من مكان الفرح، وعندما خرج من بيته رأيت الجماهير تتدافع للسلام عليه، وبعد ذلك دخل إلى مكان الحفل وهي جلسة على الأرض، وعندما بدأ يغني وصلني صوته في الخارج بكل وضوح، فقد كان صوته قوياً تستطيع أن تسمعه من بعد بكل وضوح شأنه شأن الفنانين القدماء الذين لم يعتمدوا على الميكروفون في توصيل أصواتهم».
في يوم الأربعاء الموافق 6 ديسمبر 1989 انتقل بوشيخة إلى جوار ربه، وكانت وفاته مأساوية ومحزنة، إذ كان يقود سيارته، فتوقف قلبه فجأة ولم يتمكن من السيطرة على القيادة.
ويبدو أن المرحوم كان متعباً ويعاني من آلام في قلبه وصدره، جراء إصابته بانهيار عصبي قبل الحادث بفترة قصيرة بسبب وفاة ابنه، ما استدعى دخوله المستشفى. كما قيل إنه كان حزيناً ومحبطاً بسبب تجاهل الإذاعة والتلفزيون لفنه الراقي، وعدم الاهتمام بإرثه الفني ومكانته الموسيقية، علماً بأنه ظهر يغني على الشاشة الفضية لأول مرة في عام 1973 حينما سجل تلفزيون البحرين أغانيه من حفلة موسيقية مقامة على مسرح الجفير.
وهكذا فقدت الساحة البحرينية الغنائية أحد روادها المجددين ممن حاول تحريك المشهد الغنائي في عصره ولو بشيء بسيط من خياله من خلال تناول القصيدة الشعبية الخليجية وتجسيدها في لحن ووزن إيقاعي مختلف عما كان سائداً في حقبة الثلاثينات والأربعينات.