منذ أكثر من عقد من الزمن، تحدثنا عن عدد من المؤشرات التي تشي بقرب انتهاء الأحادية القطبية، الجاثمة على العالم، منذ سقوط حائط برلين، في نهاية الثمانينات من القرن الماضي. وذكرنا في هذا السياق، التمرد الفرنسي، على قرار جورج بوش الابن عام 2003، باحتلال العراق، ومحاولته استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي، يجيز له تحقيق ذلك، وتلويح فرنسا باستخدام حق النقض (الفيتو) في حالة طرح مشروع القرار للتصويت.
ومع انطلاق ما بات يسمى «الربيع العربي»، في مطالع العقد الثاني من هذا القرن، وخسارة روسيا الاتحادية لحليف يعتدّ به، هو نظام العقيد معمر القذافي، وتدهور الأوضاع الأمنية في سوريا، بعد تحول الحركة الاحتجاجية إلى الحالة العنفية، وتدخل أطراف دولية وإقليمية وعربية على خط الأزمة، أدركت إدارة الرئيس بوتين، أهمية تدخلها العسكري للحفاط على آخر معقل لها على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
وقد كان لهذا التدخل مبرراته السياسية والعملياتية، خاصة أن روسيا، منذ الاتحاد السوفييتي، احتفظت بعلاقات تاريخية واستراتيجية بسوريا، في حلقات ممتدة، منذ الخمسينات من القرن الماضي، وأن استمرار تدهور الواقع الأمني، فيها يمكن أن يلحق الأذى بالخاصرة الاستراتيجية لروسيا في حدودها الجنوبية. وليس من شك أن هذا التدخل، قد أسهم في حماية جسد الدولة السورية الحديثة، وحال دون تفرد اليانكي الأمريكي، برسم سياسة هذه المنطقة.
منذ «الربيع العربي»، حتى يومنا هذا، سالت مياه كثيرة. فالتعددية القطبية، باتت أمراً جلياً، رغم أن مختلف الأطراف الفاعلة في الصراع الدولي، لم تصل به إلى شواطئ التسويات. فالقوة العسكرية الروسية، باتت قادرة على مضاهاة القوة الأمريكية بشكل عام، بل والتفوق عليها في مجال الصواريخ فرط الصوتية. وقد تمكنت مصانع التسليح الروسية، من الدخول إلى أسواق عالمية عديدة، بل إنها حققت اختراقات يعتدّ بها في بلدان كانت حتى وقت قريب تحسب ضمن المصالح الحيوية الأمريكية. ومن ضمنها تركيا، البلد العضو في حلف الناتو.
يضاف إلى ذلك، أن التنافس الروسي، مع الولايات المتحدة، قد اتخذ شكلاً دراماتيكياً، بإطلاق العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، والتي حالت دون التحاق نظام زيلينسكي بحلف الناتو، ووسعت من العمق الاستراتيجي للإمبراطورية الروسية.
إن سرعة التحرك الروسي بالمنطقة العربية، بعد «الربيع العربي»، والموقف السلبي من الأحداث الجارية في غزة، والذي يصل درجة الصفر حين يقارن بالسياسة النشطة للولايات المتحدة وحلفائها يطرحان كثيراً من علامات الاستفهام.
هناك كثير من المحللين، يرون أن موقف بوتين من الأحداث الجارية في غزة، هو تراجع تكتيكي، لصالح تقدم أوسع على الجبهة الأوكرانية. وأن الرئيس الروسي، لا يرى فارقاً كبيراً، بين التعرض للاستراتيجية الأمريكية في «الشرق الأوسط»، وبين إلحاق الهزيمة بمشروعها في أوكرانيا. وفي كل الأحوال، فإن غزة بالنسبة لبوتين، رغم أهميتها في الصراع الدولي المحتدم بين الشرق والغرب، لا تشكل عمقاً استراتيجياً لبلاده، بعكس أوكرانيا، يضاف إلى ذلك، أن بعض المحللين، يرون في وجود جالية يهودية روسية كبيرة، بالدولة اليهودية، سبباً رئيسياً في الموقف الراهن للإدارة الروسية. فأغلبية هؤلاء لا يزالون يحتفظون بجنسيتهم الروسية، مع جنسيتهم الجديدة، وحضورهم جلي في رسم السياسة الروسية، وليس بالإمكان تجاهلهم في الحسابات الانتخابية.
على أن جملة هذه الحقائق، لم تمنع روسيا، من اتخاذ مواقف مطالبة بوقف إطلاق النار، سواء من خلال عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي، أو حضورها الكبير، في الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة.
والمؤكد أن حالة الصراع والتنافس، بين أمريكا وروسيا، ومعها الصين سوف تستمر إلى حين يصل مختلف الفرقاء إلى موسم التسويات. وبالنسبة للعرب وقضاياهم المصيرية، فهم بين خيار انتظار نظام دولي أكثر عدلاً، أو الإمساك بزمام مقاديرهم، ولا خيار آخر.