ما هي مدلولات التصاعد المتسارع في سرعات معالجات البيانات الحاسوبية، والمضاعفات الفائقة في سعة أقراص التخزين؟ المشهد يشبه عربة «الزحليقة» على المنحدر الجليدي القسري، الذي لا مجال لعودته إلى الأعلى. سنة 1990 كان ضرباً من الخيال الحصول على قرص صلب سعته عشرة جيجابايت. كانت تلك أيام عزّ القرص المرن (فلوبي ديسك) 1.4 ميجا. كان يصول ويجول في المؤسسات الصحفية ودور النشر، فهو يتّسع لألف وأربعمئة صفحة مكتوبة.
لا علينا بتفاصيل المسيرة التطورية، فقفزات تضخم التخزين عجيبة حين نتأمل أبعاد الإمكانات التي تنطوي عليها. إحدى أكبر شركات صناعة الأقراص الحاسوبية تريد أن تنتج، في أجل أقصاه عشر سنوات قرصاً حاسوبيّاً سعته «بيتابايت»، أي ألف تيرابايت. هو القرص المعروف بالاختصار «إس إس دي» (صوليد ستيت درايف). الترجمة أو التعريب قطار: وسيط تخزين ذو حالة ثابتة.
تخيّل لو أننا أردنا انتهاج الاقتصار على الحروف الأولى، اقتداء بالإنجليزية، فقال لك صديقك: «لقد اقتنيت أحدث وتذحث». قد ترى أن «ذو» أداة يجب حذفها من الأحرف الأولى، فتقول له: بل قل «وتحث». هذه الاختصارات لم توافق المزاج العربي، فلا نقول «جدع» لجامعة الدول العربية، حتى لا نقع في تأويلات «الجدعنة» في الجغرافيا السياسية والاستراتيجية، ولا نحن نمزح إلى حدّ الحديث عن «مأمتعث»، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، فيتهمنا السامع بأننا لا نعرف النطق السليم للماموث.
نعود إلى مربط «وتذحثنا»، لكونه وسيط تخزين ذا حالة ثابتة، فحالته مستقرة والحمد لله، كأنه في غرفة «إن عاش». البيتابايت الذي ترمي إلى إنتاجه الشركة، يعادل عشرة مليارات كتاب من مئة صفحة، أو خمسة مليارات من فئة مئتين. الدهشة لا معنى لها إذا خلت من الخيال العلمي. كم هي المساحة التي تستطيع أن تستوعب خمسة مليارات كتاب؟ أنت تضعها في جيب قميصك. ثم إنه لا وجود لمكتبة بهذه الأرقام الإمبراطورية.
أكبر مكتبة في العالم هي المكتبة الوطنية البريطانية في لندن: 170 إلى 200 مليون بين كتب ووثائق وأفلام، تليها مكتبة الكونجرس 170 مليوناً من المؤلفات والأشرطة. ألا ترى الثورة الماردة في مفهوم المكان والمساحة؟ أكبر مكتبة في العالم لن تحتل سوى سدس وتذحث. لا بدّ من شيء من النكد، فالعالم العربي لا يريد أن يطرد من رأسه إبليس القرفصاء على رصيف القرن الحادي والعشرين، كأنه منوّم مغناطيسيّاً بالذهول أمام سرعة قطار التحولات.
لزوم ما يلزم: النتيجة الشعرية: الحلّ هو أن يتمثل الشباب العربي بقول طرفة بن العبد: «إذا القوم قالوا من فتًى خلتُ أنني.. عُنيتُ فلم أكسل ولم أتبلّدِ».