إيلاف من الرباط: تتواصل دينامية أوراش تحضير المغرب للإستضافة بطولة كأس العالم 2030، على المستويين الرسمي والشعبي، لتقديم نفسه كوجهة عالمية رائدة.
وفي الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة الأشغال على مستوى البنية التحتية، وتتسابق أوراش إنجاز ملاعب بمعايير دولية، وإطلاق حملات ترويجية لجذب الاستثمار الأجنبي والسياح، يبرز تساؤل جوهري يلامس عمق التجربة المغربية يتمثل في: هل تنسجم طموحات الاستضافة الكبرى مع واقع السلوك المدني للمواطنين في الفضاء العام؟ وهل المغرب، بشعبه وتصرفاته اليومية، جاهز لتقديم الصورة الحضارية التي ينشدها العالم من بلد يحتضن أكبر تظاهرة رياضية على وجه الأرض؟
في خضم هذه الاستعدادات، جاءت دراسة استطلاعية حديثة أعدها "المركز المغربي للمواطنة" لتُلقي الضوء على هذا الجانب الحيوي.
الدراسة، التي نشرت خلاصاتها الأربعاء، لم تكن مجرد رصد لظاهرة عابرة، بل محاولة لتقديم قراءة معمقة لواقع السلوك المدني في ظل تحولات اجتماعية وعمرانية كبرى شهدها المغرب في العقود الأخيرة. هذه التحولات، التي شملت تزايد التمدن والهجرة الداخلية وضعف الأواصر الاجتماعية التقليدية، وتركت بصماتها على أنماط العيش والتفاعل في الفضاءات العمومية.
واعتمدت الدراسة، التي ساهمت فيها عينة تجاوزت 1100 مشارك من مختلف الفئات والجهات، على منهجية الاستبيان الإلكتروني، مما يسمح بالحصول على مؤشر نوعي يعكس توجهات شريحة واسعة من المواطنين الذين يمثلون الفئات الأكثر استخداماً للتكنولوجيا.
هذه المعطيات، وإن كانت لا تمثل بالضرورة كامل الطيف المجتمعي من الناحية الإحصائية الدقيقة، إلا أنها تقدم رؤى قيّمة حول التصورات الذاتية للمواطنين تجاه سلوكهم وسلوك غيرهم.
تحديات متراكمة في الفضاء العام
توقفت الدراسة عند عدة محاور رئيسية، وكشفت عن مؤشرات تبعث على القلق وتستدعي وقفة تأمل. ففي مجال العلاقات بين الأفراد في الفضاء العام، بدت مستويات الرضا عن احترام قواعد اللباقة، وتجنب إزعاج الجيران، واحترام النساء، واحترام الفئات المستضعفة والهشة، متدنية للغاية.
وعلى سبيل المثال، أشار 52.2% من المشاركين إلى عدم رضاهم عن مستوى احترام النساء وعدم مضايقتهن. ورغم وجود نسبة مرضية في احترام كبار السن وذوي الإعاقة (43.3% راضون)، فإن هذا لا يلغي الصورة العامة التي تشير إلى ضعف ملحوظ في التفاعل الإيجابي في الفضاء العام.
و في مجال البيئة والنظافة، جاءت الأرقام صادمة، إذ عبرت الغالبية العظمى من المشاركين بنسبة 73.5% عن عدم رضاهم عن مستوى المحافظة على نظافة الأماكن العامة، و66.8% عن عدم احترام المساحات الخضراء والحدائق.
هذه الأرقام تعكس إشكالية حقيقية في الوعي البيئي والمسؤولية الجماعية عن الممتلكات العامة، وهو ما يُعد تحدياً كبيراً لبلد يستعد لاستقبال ملايين الزوار.
وفي محور النظام والانضباط، بدت المؤشرات أكثر قلقاً. حيث أعرب غالبية المشاركين عن عدم رضاهم عن الالتزام بالمواعيد بنسبة 60.7%، واحترام الطوابير بنسبة 46.2%، والتصرف الحضاري في وسائل النقل العمومي بنسبة 54.8%، ناهيك عن احترام قوانين السير من طرف السائقين والراجلين (60.9%).
هذه النتائج تُشير إلى أن "ثقافة الانضباط" لا تزال بحاجة إلى تعزيز عميق لتترسخ كجزء أصيل من السلوك المدني.
ظواهر سلبية تهدد بـ "إفساد الاحتفالية"
لم تكتفِ الدراسة برصد السلوكيات، بل تطرقت أيضاً إلى ظواهر سلبية واسعة الانتشار في الفضاء العام، اعتبرها المشاركون تهديداً حقيقياً لجاذبية المغرب وصورته الحضارية.
وتصدرت قائمة هذه الظواهر "الغش في المعاملات التجارية" (83.1%)، و"المضايقات الصادرة عن حراس السيارات" (87.7%)، و"احتلال الملك العمومي" (93.2%)، و"التسول واستغلال الأطفال" (92.2%). كلها ظواهر، بتفاصيلها وتداعياتها، ترسم صورة مقلقة عن بعض جوانب الحياة اليومية في المدن المغربية، وتطرح تحدياً كبيراً أمام الجهات المعنية قبل استضافة الأحداث الكبرى.
وحول تأثير كأس العالم 2030، أظهرت الدراسة أن آراء المشاركين متباينة، وإن كان أغلبهم يرى أن تأثيره على السلوك المدني سيكون محدوداً (36.7%)، أو أنه لن يكون له تأثير مباشر (32.9%). ومع ذلك، فإن المخاوف من السلوكيات السلبية التي قد تسيء إلى صورة المغرب خلال المونديال، كانت حاضرة بقوة في وعي المشاركين. فقد حذروا بشكل خاص من "الغش في البيع والخدمات التجارية والسياحية" (84.8%)، و"إلقاء النفايات" (81.7%)، و"التسول المزعج" (77%)، و"مشاكل سيارات الأجرة" (73%)، و"التحرش بالسائحات" (69.6%).
هذه المخاوف تعكس إدراكاً مجتمعياً لأهمية تقديم صورة إيجابية للمغرب، وتشير إلى الحاجة الماسة لبرامج توعية وتأهيل شاملة.
الأسرة، التعليم، والقانون: مرتكزات أساسية للإصلاح
في المقابل، لم تغفل الدراسة تحديد العوامل التي يرى المواطنون أنها يمكن أن تساهم في تعزيز السلوك المدني. وتصدرت "تعزيز التربية في الأسرة" قائمة هذه العوامل بنسبة 80%، مما يؤكد الدور المحوري للمؤسسة الأسرية في غرس القيم. تلتها "تعزيز دور المؤسسات التعليمية" بنسبة 59.7%، مما يؤكد على أن المدرسة والجامعة تُعتبران الحاضنة الثانية لترسيخ الوعي المدني.
ولم يغفل المشاركون أهمية "القوانين والتشريعات الصارمة" (54.9%) في ضبط السلوك العام، إلى جانب "الوازع الديني والقيم الأخلاقية" (44.4%) كركيزة أساسية. كما شددوا على ضرورة "العدالة والمسؤولية بين جميع المواطنين"، ودور "وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي" في تشكيل الوعي العام.
دعوة لعمل وطني شامل
تُقدم هذه الدراسة، على الرغم من طبيعتها النوعية، دعوة صريحة ومباشرة للمسؤولين والمجتمع المدني والأفراد على حد سواء، للعمل بشكل جاد ومستمر على تعزيز السلوك المدني. إذ أن المغرب، وهو يتهيأ لاستقبال العالم في عام 2030، لا يمكن أن يكتفي بتأهيل البنية التحتية فقط، بل يجب أن يلتفت أيضاً إلى "البنية السلوكية" لمواطنيه.
إن تحقيق هذا الهدف يتطلب جهداً متكاملاً يجمع بين تعزيز التربية الأسرية والمدرسية، وتطبيق القانون بصرامة ونزاهة، وتعزيز قيم التسامح والمسؤولية الفردية والجماعية. كما تدعو الدراسة إلى إشراك فعال للمجتمع المدني في برامج التوعية، وتأهيل الفضاءات العمومية، وتحسين جودة الخدمات، وحتى إحداث "شرطة جماعية للقرب" لتطبيق القانون بشكل فعال. حيث أن المونديال، بقدر ما هو فرصة اقتصادية وسياحية، هو أيضاً محك حقيقي لمدى التزام المغاربة بقيم المواطنة، وتقديم صورة حضارية تليق بمكانة المملكة وطموحاتها المستقبلية.