أصدرت المحكمة العليا الأميركية حكماً تاريخياً قضى بأن الرئيس السابق دونالد ترامب يتمتع بالحصانة الجزئية. الحكم جاء في قضية اتهام ترامب بدفع أنصاره لاقتحام الكونغرس مطلع العام 2021. وقد احتفى ترامب الذي طالما أدعى بأن لديه حصانة رئاسية، بالحكم معتبراً إياه نصراً للدستور وللديمقراطية.
لكن الحكم أثار عاصفة من الغضب في صفوف خصوم ترامب الذين اعتبروه تجاوزاً للمبادئ القانونية في المساواة أمام القانون. وقد ألقى الرئيس جو بايدن كلمة مخصصة للموضوع دان فيها الحكم معبراً عن رفضه له واعتراضه عليه. كما وتعهد قادة حزب بايدن الديمقراطي بالعمل على مواجهة الحكم. لكن قرارات المحكمة العليا قاطعة وباتة وهي تمثل رأس السلطة القضائية المستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.
استند الحكم إلى فكرة "علوية منصب الرئيس" ودرجة التفويض التي يتمتع بها باعتباره منتخباً مباشرة من الشعب وممثلاً لإرادته ورأساً للسلطة التنفيذية. وهو بالتالي يجب أن لا يقلق من الملاحقات القانونية للإجراءات والقرارات التي ينفذ فيها واجباته.
وذهب الحكم أيضاً إلى أن الرئيس يجب أن تفترض فيه الحصانة في الأفعال الرسمية التي يقوم بها لأن من الوارد، وربما المرجح، أن تكون أيضاً مشمولة بالحصانة لأنها جزء من عمله. لكن الحكم نص على أن الرئيس لا يتمتع بالحصانة في الأفعال التي يقدم عليها خارج عمله الرئاسي وبصفته الشخصية.
وقد لجأ ترامب الى المحكمة التي تمثل السلطة القضائية الأعلى في الولايات المتحدة في إطار صراعه القانوني، في قضية اتهامه بدفع أنصاره لاجتياح مبنى الكونغرس يوم السادس من يناير/ كانون الثاني 2021، أثناء جلسة التصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية.
خسر ترامب تلك الانتخابات أمام جو بايدن لكنه استمر بإنكار خسارته والادعاء بأن الانتخابات لم تكن عادلة وغير قانونية. فقد كان المستشار الخاص جاك سميث الذي عينته وزارة العدل الأميركية للتحقيق في قضايا ترامب قد أعد قضية اتهام ترامب بدفع أنصاره لاجتياح مبنى الكونغرس وعرقلة جلسة التصديق على نتائج الانتخابات التي كانت منعقدة.
ولجأ ترامب إلى الدفع بامتلاكه للحصانة لتصل القضية إلى المحكمة العليا. وقد أعادت المحكمة العليا بحكمها الآن القضية إلى المحكمة الأدنى التي سيكون عليها الآن أن تحدد وتثبت قناعتها بشأن كل تهمة يواجهها ترامب وتوضيح وتبرهن على أنها تهمة تخص أفعالاً ارتكبها بصفته الشخصية لا الرئاسية.
تتكون المحكمة العليا من تسعة قضاة يعين الرئيس أعضاءها، كلما شغر منصب أحدهم. ويعد قرار تعيين قاض في المحكمة العليا من أهم القرارات التي يتخذها أي رئيس أميركي أثناء رئاسته.
وقد أُتيحت لترامب فرصة تعيين ثلاثة من القضاة التسعة. وقد اختار قضاة من ذوي التوجه المحافظ القريب لمنطلقات حزبه الجمهوري ومؤيديه.
أصبحت المحكمة بذلك ذات غالبية من القضاة المحافظين. وقد صدر قرار إعطاء الحصانة لترامب بغالبية ستة الى ثلاث، أي أن كل القضاة المحافظين صوتوا لصالحه بينما صوت القضاة الليبراليون الثلاثة ضده. وقد كتبت القاضية سونيا سوتامايور أطروحة الاعتراض على الحكم قائلة "إن ترامب وأي رئيس مقبل، سيكون ملكاً مصوناً محصناً، وسيكون بإمكانه أن يأمر اجهزته بقتل معارضيه أو أن يتلقى الرشاوى مقابل مصالحه وسيكون أمناً من أي ملاحقة قانونية".
يضع الدستور الأميركي في الواقع آلية لمحاكمة الرئيس، ولكن ليس في المحاكم العادية بل في الكونغرس وفي عملية العزل الرئاسي.
وفي تلك العملية يلعب مجلس النواب دور الإدعاء العام الذي يصل في النهاية إلى قرار العزل أو عدمه. وإذا قرر عزل الرئيس تذهب القضية الى مجلس الشيوخ الذي يتحول إلى محكمة تصدر حكمها في النهاية بغالبية الثلثين على الرئيس.
وقد حصلت تلك العملية مرتين كما هو معروف للرئيس ترامب. كانت الأولى في قضية اتهامه بالضغط على الرئيس الأوكراني لإيجاد أدلة ضد المرشح الرئاسي حينذاك جو بايدن الذي عمل ابنه في شركات أوكرانية. أما القضية الثانية فكانت تتعلق باجتياح انصار ترامب للكونغرس.
وقد قرر مجلس النواب عندما كانت غالبيته من حزب بايدن الديمقراطي حينذاك عزل ترامب، لكن مجلس الشيوخ لم يستطع الوصول إلى غالبية الثلثين لإخراجه من منصبه.
إذ التف حوله كل أعضاء المجلس من حزبه الجمهوري في المرة الأولى، وأيده جزء كاف منهم في المرة الثانية.
ورغم الغضب العارم لخصوم ترامب على المحكمة العليا وتعهد أعضاء الكونغرس من حزب بايدن بالتحرك، فإن ما يستطيعون فعله في الواقع محدود في هذه الناحية. ويتيح الدستور الأميركي إمكانية عزل قضاة المحكمة العليا في الكونغرس لكن هذا الامر مستبعد وصعب الحدوث.
ستبقى القضية محوراً للتنافس السياسي في الحملات الانتخابية، وسيحاول الديمقراطيون حشد الدعم السياسي لدى انصارهم بالقول بأن انتخابهم في الكونغرس ووصولهم الى الغالبية يضمن على الأقل إدامة التصدي لترامب اذا فاز بالرئاسة في نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
من الناحية العملية امتد تأثير حكم المحكمة بحصانة ترامب، إلى أبعد من قضية اجتياح الكونغرس التي أصبحت من المستبعد أن تصل إلى حكم قبل الانتخابات الرئاسية. فقد استجاب قاضي المحكمة التي أدانت ترامب في نيويورك مؤخراً إلى طلب تأجيل جلسة إصدار الحكم من 11 من يوليو/تموز إلى 18 من سبتمبر/أيلول.
أصبحت الاحتمالات مفتوحة لأن تتأثر تلك القضية والحكم فيها لادعاء دفاع ترامب، بأن جزءاً منها أو من الأدلة التي استند إليها الحكم كان يتضمن أفعالاً لترامب أقدم عليها أثناء رئاسته.