الأرجح أن يستغرب كثيرون حين أقول إنني رفضت تصديق وجود أطفال ونساء وعجائز إسرائيليين أخذهم مقاتلو «كتائب القسام»، الجناح العسكري لحركة «حماس»، رهائن عندما اقتحموا «غلاف غزة»، في هجومهم المباغت يوم السبت الموافق سابع أكتوبر (تشرين أول) الفائت، والذي اتضح، لاحقاً، كم كان غير مسبوق على الإطلاق، من حيث الحجم، والتجهيز، وبالتالي النجاح في تحقيق أبرز أهداف ضربة كان لها وقع واقعة ليست في حسبان أي طرف، سواء في إسرائيل ذاتها، أو قطاع غزة، أو مناطق السلطة الفلسطينية، ثم المنطقة العربية وإقليمها المجاور، بل والعالم ككل. حقاً، رفضت أن أصدق حتى رأيت بأم العين وقائع بدء تنفيذ صفقة تبادل الرهائن مع أسرى فلسطينيين في سجون إسرائيل، اعتباراً من يوم الجمعة، أول من أمس، المنصرم. لعل تفسير رفضي تقبّل الأمر يكمن في حالتي ذهن يتعرض لهما العقل البشري أحياناً؛ إحداهما يُطلق عليها المتخصصون في علم النفس- سايكولوجي- حالة الإنكار الذاتي (Self-Denial)، وثانيتهما هي (Wishful Thinking)، أي تفكير رغبوي. يبدو أنني مررت بالحالتين معاً، إنما، مع ذلك، يبقى السؤال قائماً: لماذا؟
الجواب المحتمل عن أولى الحالتين يتمثل في أسس نشأتي، كما غيري من مواطني كل مجتمع عربي، وعلى نطاق أوسع مجتمعات العالم الإسلامي. مسلمين كنا أو مسيحيين، تعلمنا من آبائنا، وبالطبع أمهاتنا، مثلما تعلموا هن وهم من أجدادنا الأولين، مبادئ الرحمة بكبار السن، والعطف على الطفل الضعيف، والأخذ بأيدي صغار الأولاد والبنات، ثم إبداء كل الاحترام لكل النساء، إذ بين أكبر المآخذ في تقاليدنا أن «يسترجل» أحدهم، كرجل، على إمرأة، حتى لو كانت في الجانب الخطأ، فكيف إذا هي أمٌ، أو جدة؟ أما أوصى نبي أمة المسلمين، خاتم الأنبياء والمرسلين- صلوات الله عليه وعلى آله أجمعين- بالنساء قائلاً إنهن «شقائق الرجال»، وأن «الجنة تحت أقدام الأمهات»؟ بلى. كيف، إذاً، لإمرئ يقول إن الإسلام هو أساس كل ما يُقدم عليه من أفعال، حتى في شؤون حياته اليومية، الإقدام على إلحاق أذى بطفل وأم وجدة عجوز؟ ثم أنّى لمقاتل يتسمى الفصيل المنتمي إليه بإسم «حركة المقاومة الإسلامية»، أن يجيز لنفسه اختطاف أمهات وأطفال وجدات وأخذهم من بيوتهم رهائن إلى أنفاق قطاع غزة؟ كلا، كلا، طفقتُ أقول للنفس أن ما يتردد هو مجرد دعايات أبواق إسرائيلية، تسعى لإلحاق أسوأ صورة بمقاتلين نذروا أنفسهم لأجل انتزاع الحق، والدفاع عن أعدل قضية.
مشهد من الدمار الذي خلفته ضربات جويّة إسرائيلية مكثفة على قطاع غزة خلال ليل 11 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، قتل فيها ما لا يقلّ عن 30 شخصًا وأصيب المئات بجروح. (وكالة فرانس برس)
بالطبع تبين لي، لاحقاً، أن تفكيري ذاك يندرج في منهج الإنكار الذاتي، وهو بدوره متصل مع منهاج التفكير الرغبوي، لجهة أنه انعكاس له، مثل المرآة، التي حين تنظرها ربما تريك ما يتمنى دماغك رؤيته عبرها، وليس بالضرورة حقيقة الواقع غير المتزوق بمكياج. هكذا هي الوقائع، من شأنها دائماً أن تصدم كل محلّق في فضاءات خيال ليس موجوداً في الأساس. وما أقدمت عليه حركة «حماس»، عبر ذراعها المسلح «كتائب القسام»، سوف تنتج عنه مآس تلحق بالفلسطينيين قبل الإسرائيليين، الأرجح أنها ستتواصل أعواماً تطول، وما رأينا من المآسي، حتى الآن، ليس سوى رأس مصائب كرة الثلج الأخذة في التدحرج.
طفل فلسطيني يمشي أمام جدارية يُزعم أنها بتوقيع فنان الشارع البريطاني بانكسي، على أنقاض منزل تم تدميره خلال الهجوم العسكري الإسرائيلي الذي استمر لمدة 50 يومًا في صيف عام 2014. الصورة من بلدة بيت حانون في قطاع غزة، التقطت في 26 فبراير (شباط) 2015. (تصوير: محمد عابد، وكالة فرانس برس)
أما القتلى في الجانبين، فهم ضحايا التطرف الممسك بزمام الأمور على الضفتين، الفلسطينية وكذلك الإسرائيلية، منذ سنوات عدة. بالطبع، هناك دائماً من يبادر إلى الرد على ما سبق قائلاً إن القتلى في الجانب الفلسطيني «شهداء»، وهم وهن، في مجملهم، مهما ارتفع العدد، ثمن قليل على طريق تحرير فلسطين. حسناً، لكل قائلة وقائل بهذا الرأي الحق في هكذا محاججة. ليس لي، ولا لغيري، الاعتراض. مع ذلك، أكثر ما يثير لديّ، وربما لدى غيري، الحيرة هو محاولة فهم مقارنات البعض بين تصرفات المحتل الإسرائيلي الظالمة، الهمجية، المتوحشة، وأضف إليها ما تشاء من صفات، وبين تصرف مقاتلين يُفترض أنهم متسلحون، قبل الرشاشات والقنابل والبنادق، بسلاح أخلاق قيّم الرحمة والعدل والتسامح، حتى في التعامل مع الأعداء، وهي مقارنات تحاول دائماً طرح منطق يبرر المستعصي على أي تبرير. تُرى، هل ينفع القول ليت أن الذي حصل لم يحصل إطلاقاً؟ كلا، فذلك نوع من التفكير الرغبوي أيضاً، وهو لن يغير شيئاً، لا من الحاصل، ولا من الأتي لاحقاً.