: آخر تحديث
فيروس «كورونا»، خطفه وحال دون توديع يليق به

رحيل الناشر نعيم عطا الله... رجل غير عادي

99
89
115
مواضيع ذات صلة

إيلاف من لندن: يتوارى غداً، الجمعة، 12 فبراير 2021، خلف غيوم ضباب لندن، جسد نعيم عطا الله، بعدما قضى فجر الثاني والعشرين من الشهر الماضي- يناير - وقد عجز عن مواجهة فيروس «كورونا»، فأسلم الروح التي أمضت من العمر تسعة وثمانين عاماً، تميز صباها بقلق الصبي المهاجر من موطنه حيفا، عروس الساحل الفلسطيني، واتسم شبابها بأرق ليالي ونهارات جهد شق الدروب في مجالات عدة، ثم استقر زمن نضوجها سطوعاً بين نجوم شخصيات نشر الكتب، ذلك الفضاء الصعب الارتياد، الذي تألق نعيم عطا الله ضمن كبار الرواد فيه، أولئك الذين عانوا مشقات الصعود فيه، لكنهم متّعوا مئات آلاف القراء والقارئات عبر القارات الخمس، فحصدوا بريق بهجة النجاح، وذاقوا طعم الفرح، فواكه جمّة في حدائق الحياة.

آخر مرة التقيت نعيم عطا الله كانت مساء أربعاء الثالث من إبريل (نيسان) للعام 2019. المكان؛ «The Drawing Room» في الطابق الرابع من متجر «Fortnum&Mason» الشهير عالمياً، والكائن قرب ميدان بيكاديللي، الأشهر سياحياً. المناسبة؛ كنتُ ألبي، مع لفيف من أهل قلم وفكر دعوة دار «Qartet Books»  للاحتفاء بإصدار كتاب الدكتور فيليب سالم «DEFEATING CANCER». لقائي ذاك مع نعيم عطا الله جرى بعد سنوات انقطاع طالت منذ لقاءات عدة جمعتنا في لندن خلال بعض مناسبات عامة، أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي، وأجريت معه خلالها حواراً  لجريدة «العرب» نشرته ضمن سلسلة «قصة نجاح عرب في الغرب». في ختام ذلك الحوار قلت له ما مضمونه إن النجاح الذي حققه كفلسطيني، جدير أن يكون موضع افتخار الفلسطينيين به، فأجابني بتواضع جم بما خلاصته، أنه لم يزل في أول الطريق. كذلك كانت إجابته أيضاً، على الملاحظة ذاتها، في لقائنا الأخير.


الأديب الليبي الراحل أحمد إبراهيم الفقيه وثلاثية «خرائط الروح»

يعرف كل من تابع مسيرة نعيم عطا الله، أن المرأة احتلت خاص المكان في حياته، فكان لحضورها إيقاع متميز في عوالم اهتماماته كلها، وتجلى ذلك في ما وضع هو نفسه، أو ما نشر لغيره، من كتب كانت النساء موضع تركيز موضوعاتها، أو محور شخصياتها. مثلاً؛ من مؤلفاته: WOMEN وA Woman A Week وThe Old Ladies of Nazareth وبين ما نشر لغيره، تبرز المجموعة القصصية بعنوان «أزواج الليدي حياة» وهي للأديب الليبي الراحل أحمد إبراهيم الفقيه، الذي نشر له أيضاً ثلاثية «خرائط الروح» بالإنجليزية، وهي التي كانت نشرتها «إيلاف» على حلقات قبل صدورها في كتاب، أما آخر ما أصدر نعيم عطا الله، فقد خصصه لصفحات من ذكريات مشواره الرائع في عالم النشر.


في العام 2017، قلد الأمير تشارلز الكاتب والناشر نعيم عطا الله وسام CBE رفيع المستوى تقديراً لإنجازاته على مدى عقود في مجالات الكتابة والنشر والفنون. ويعني هذا الوسام رتبة فائقة الامتياز.

ريمون عطا الله عن نعيم
أدع هنا المجال للصديق الأستاذ ريمون عطا الله، الصحافي العريق، والعارف المتميز في دروب ودهاليز بلاط «صاحبة الجلالة»، من لبنان إلى لندن، الذي كان تكرّم بإهدائي نسخة من كتاب نعيم عطا الله، صيف يونيو (حزيران) الماضي، وكان كتب عنه، آنذاك تحت عنوان (نعيم عطا الله من كتاب إلى كتاب) ما يلي: (تعيش في المملكة المتحدة، وعلى وجه التحديد في انكلترا، جاليات عربية كبيرة من مختلف دول الشرق الادنى والخليج والشمال الافريقي. والمتحدرون من تلك الدول، بمشارقها ومغاربها يتعاطون شتى المهن على انواعها، بحيث نجد بينهم علماء واطباء ومهندسين وقضاة ومحامين وصحافيين ومصرفيين وصناعيين وتجاراً وحرفيين، وهناك عدد منهم يحمل اوسمة استحقاق وتقدير من الملكة اليزابيث الثانية. واذا غربلنا تلك الاسماء، وقد صار اصحابها بريطانيين، يطفو على السطح اسم الفلسطيني نعيم عطاالله، الذي برز في قطاعات يمكن تعدادها على نحو يثير الاعجاب وحتى الدهشة، وعلى رأسها، اصدارات دار النشر العالمية «كوارتت»، التي يديرها بعقل المتابع لكل ما يحتاجه قارئ الانكليزية. صدر له حديثاً كتاب مشوق تحت عنوان: «نعيم عطاالله/ ذكريات/ سحر وجنون حياة مليئة بالنشر» يمكن القول عنه، انه عصارة تجاربه في لندن مع مشاهير عرفهم وعايشهم في ميادين السياسة والديبلوماسية والثقافة والصحافة والادب والمسرح. هذا الكتاب ذو غلاف غير مألوف، غلاف غريب ومثير، تناوله الاعلام البريطاني والعربي بعرض مسهب وإطراء لافت: «شاب في مقتبل العمر، تردد على انكلترا من فلسطين في اعقاب الحرب العالمية الثانية بسوادها وكآبتها، شغل في بداياته بين الانكليز وظائف عدة، مثل مُرتجل مناسبات، ومقدم حفلات، ومُعد استعراضات حيث كانت شلّة من الشابات الجميلات يتمايلن ويتمخرطن على المسارح بثياب وملابس مطاطية آخاذة من تصميمه». هكذا تفتحت هذه المواهب، والتي كانت بدورها من عالم اسطوري سرعان ما انتقل الى الكتابة عنه والتأليف فيه، وصولا ً الى عالم النشر حيث الروايات والحكايات وقصص الحب والجنس للسينما وللمسرح كما للمدمنين على القراءة. «إنه واحد من اكثر الشخصيات الملونة في المشهد الثقافي في لندن، وقد نشر سلسلة متنوعة من الاسماء الأدبية البارزة على مر السنين، بما في ذلك أنجيلا كارتر، وبريان سيويل، وليني ريفنستال، على سبيل المثال لا الحصر. في كتابه يكتب بشكل ترفيهي عن معاصريه اللامعين، ويتراوح هؤلاء بين عازف الكمان وقائد الاوركسترات السيمفونية، يهودي مينوهين، والسياسيين توني بن، وإينوك باول، الى راقصة الباليه الشهيرة مارغو فونتين، ومؤسس «برايفت آي» ريتشارد إنغرامز والكاتب كوينتين كرو، الى مايكل أسبيل والرئيس السابق لـ«كوندي ناست بريطانيا» نيكولاس كوليردج. يروي بحرارة كيف انه على الرغم من وجود الحثل العضلي واستخدام كرسي متحرك، فإن الصحفي كوينتين كرو لم يتوقف ابداً عن التعبير عن سعادته وسط النساء الجميلات، والسفر، والحفلات الليلية. يجادل الامر نعيم ويقول «ان المعاقين لا يختلفون كثيراً عن اي شخص آخر من بني البشر». تقول جين شيلينغ «يجب ان تروق هذه الذكريات المضحكة للغاية لعشاق كتاباته لانهم سوف يستمتعون بقراءتها». ولم تغب عن ذكرياته اللبنانية نضال الاشقر والسورية رنا قباني فكانت لهما ما هو جدير بالوقوف والتأمل والعبر. نعيم عطا الله وصل الآن الى حافة التسعين، وصار من الصعب عليه، لكن لن نقول الاستمرار وإنما الاحتفال بسحر وحماقات ذروة ذروته، لذا قام بتجميع ذكرياته من خزان الذاكرة، حيث التقى المشاهير من مارغو فونتين الى بولا ييتس، واستمتع بكل لقاء مع كل ممن التقاهم وصورهم على الورق. الى جانب الحياة الاجتماعية التي عاشها بغرائبها، تقول لنا هذه الذكريات ان نعيم عطا الله في «كوارتت» كان من اكبر مؤيدي ومشجعي الادب الراقي، وعلى الرغم من ان رفاقه على دروب الابداع كانوا على غير ما كان عليه، الا انهم اطروا على ذكرياته واثنوا على رقتها وجماليتها. ريبيكا فريزر تذكرت «قدرته الرائعة على تحمل اعباء ومسؤولية مواهب الشباب ومستقبلهم في ما هم يبدعون». سئل نعيم عطاالله عن كتابه، فضحك وقال للسائل «اشتر الكتاب الآن وكن اول من يستمتع به»، وقد صدق). لم يكتف فيروس «كورونا»، باختطاف نعيم عطا الله، بل، كما مع غيره من الناس، ها هو يحول دون توديع يليق به كإنسان، وبمكانته في عالم النشر، وإذ ذاك هو الحال، يكتفي أحباؤه الكثر اليوم بإلقاء سلام الوداع عن بعد، من المنازل، وعبر الإنترنت، إنما سوف يواسي الجميع تذكُّر أن الموّت يغيب الجسد، ويبقى شعاع روح الإبداع يتألق في الفضاء ما بقي الكون.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في أخبار