"بتذكر أمي من عُقدها وأقراطها اللي عليها بقايا دمها"، هكذا قالت (تالين) وهي واحدة من الأطفال الذين فقدوا أحد ذويهم، إذ فقدت والدتها وأختها وأخيها الوحيد في القصف الإسرائيلي لقطاع غزة داخل منزل أحد معارفهم الذي لجأوا إليه ظنا منهم أنه سيكون "الملاذ الآمن".
و(تالين) من بين الآلاف في قطاع غزة الذين فقدوا أفرادا من ذويهم أو فقدوا عائلتهم بأكملها.
وسُجلت نحو 149 عائلة فقدت كل منها أكثر من 10 أفراد، وفق وزارة الصحة الفلسطينية في غزة.
وخلّف القصف آثاره المدمرة التي جعلت الحزن والألم يعتصران قلوب الجميع وخاصة الأطفال بفقدهم إما ذويهم أو منازلهم، في حال تمكن الأطفال أنفسهم من النجاة.
وفي حديثي إلى تالين كنتُ أحاول أن أنتقي أسئلتي كي لا تكون قاسية عليها وفي الوقت ذاته تعكس معاناة الأطفال، أخبرتني تالين ذات الاثني عشر ربيعا: "فقدتُ أمي وإخوتي وما بقي عندي غير أبوي وأختي الكبيرة والذكرى التي تربطني بأمي الآن هي هاتفها المحمول وعُقدها وأقراطها التي عليها بقايا دمها".
"لا أخشى من الحرب"
وتضيف: "ماما كانت دائما تقول لي (ما في حد بيموت ناقص عمر) وتؤكد لي ألا أخاف ولا أخشى من الحرب الدائرة (لأن الله بياخذ عنده اللي بيحبه)".
وبدا صوت تالين وهي تتحدث إليّ بنبرة قوية وصامدة حيث وجهت رسالة لكل الأطفال قائلة: "اصبروا وخليكم مؤمنين بأنه الله رح يعوضنا كل خير".
ويبدو أن تالين اكتسبت قوتها وصمودها ممن حولها، ولاسيما من أختها الكبرى التي بقيت معها على قيد الحياة بعد القصف والتي وجدت فيها الأمومة التي غابت بفقدان والدتها بعد أن حرمتها الحرب منها، قائلة: "بحب أختي كتير وهي هلأ مثل أمي بشاركها كل شي لأنها حنونة وطيبة معي".
وكانت تالين تحدثني بجوار والدها (إياد بعلوشة) ا والذي روى لي تفاصيل المأساة التي عاشها مع عائلته بقوله: "لقد قُصف منزلي في منطقة المخابرات شمالي قطاع غزة، واضطررنا إلى التوجه نحو أحد منازل معارفنا في منطقة الزوايدة وسط القطاع الذي لم يسلم كذلك من القصف، وراح ضحيته زوجتي وابنتي وابني الوحيد، ولم يبق لي سوى ابنتيّ (تالين) و(تيا)".
وانتشر على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماع مقطعا مصورا لحظة وصول جثمان والدة تالين الذي علق والدها بقوله: "تكلمت تالين بكل صدق بما في قلبها ولم يكن كلاما مصطنعا خاصة عندما قالت: (بعرف أمي من شعرها) هذه الطفلة عبّرت عما بداخلها بعفوية من رحم المعاناة والوجع بفقدها والدتها".
وكذلك فقدت تالين جدها وجدتها وعمتها وأولادها جرّاء قصف إسرائيلي لمنزل عمتها في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، بحسب إياد بعلوشة (والد تالين) في اليوم الذي سبق قصف المنزل الذي كانت تالين متواجدة فيه مع عائلتها.
وأضاف والد تالين شارحا وضعه الحالي: "أعيش الآن مع ابنتيّ داخل مستشفى الأقصى وسط قطاع غزة الذي يعد المكان الآمن في خيمة صغيرة تفتقر إلى كل شيء، وترفض الفتاتان وتحديدا (تالين) الخروج من هذه الخيمة والعودة إلى المنطقة التي كنا فيها حتى لا تتذكر ما حدث لوالدتها وأختها وأخيها".
وفيما يتعلق بتوفر الطعام والشراب يقول والد تالين: "لا أحد يوفر لنا أي شيء نحتاجه، فنحن نحاول أن نوفر لقمة العيش إذ نشتري بعض الطحين لنعد الخبز لنا وللأطفال ولا يوجد ماء نظيف للشرب، إنها معاناة حقيقية ولا شيء سهل فالحياة صعبة للغاية إنها بمثابة عذاب، وبات همنا الوحيد أن تنتهي هذه الحرب".
"يا بابا، ماما شهيدة"
"يا بابا، ماما (شهيدة)"، هذا ما يخبر به بعلوشة ابنته تالين عندما تسأله عن والدتها، مؤكدا أنها لا تعاني من صدمة جرّاء ما حدث إلا أنها متأثرة بفقدان والدتها.
وأضاف: "ليس عندي كلام آخر أستطيع أن أخفف عنها ما مرّت به وهي الآن تحاول أن تعيش وتستوعب الأمر"، متسائلا في مرارة: "من سيمشط شعرها الذي اعتادت أن تمشطه لها والدتها؟!".
وتقول إسرائيل إنها شنت نحو 11 ألف غارة على غزة منذ بداية الحرب، إذ تجاوزت حصيلة عدد القتلى في قطاع غزة جراء القصف الإسرائيلي المتواصل تسعة آلاف منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، أكثر من نصف هذا العدد من الأطفال، وفق وزارة الصحة في غزة.
هذا وفاقم القصف والحصار الإسرائيلي من الأزمة الإنسانية في القطاع، حيث بات يعتمد نحو 80 في المئة من السكان على المساعدات الإنسانية.
ويعلق والد تالين حول حجم المعاناة الذي يعيشه قطاع غزة قائلا: "كل غزة تعيش في المجهول ولا نعرف ما إذا كنا سنستيقظ في اليوم التالي أم لا؟!".
وحذرت منظمات حقوقية من تأثيرات الحرب في قطاع غزة على أطفال القطاع الذين يشكلون حوالي نصف سكان غزة، معظمهم لم يجربوا الحياة إلا في ظل الحصار والحروب المتكررة مع إسرائيل.
وقد شهد قطاع غزة الذي يبلغ طوله نحو 41 كيلومترا وعرضه 10 كيلومترات تقريبا، وهو محاصر، منذ أكثر من 16 عاما حروبا دامية مع إسرائيل.
على ماذا تنص القوانين الدولية؟
تعتبر قضية حماية الأطفال في ظل الحروب قضية أساسية في القانون الدولي الإنساني، إذ يوفر القانون الدولي الإنساني حماية عامة لجميع المتضررين من النزاعات المسلحة ويتضمن أحكاما تتعلق خصوصا بالأطفال.
ويحظى الأطفال، بوصفهم مدنيين، بالحماية بموجب القانون الدولي الإنساني، ففي حال وقوعهم في قبضة "قوات العدو"، يجب أن يعاملوا معاملة إنسانية. ويُحمى جميع الأطفال من الانتهاكات، بما فيها التعذيب وغيرها من أشكال سوء المعاملة والعنف الجنسي والاحتجاز التعسفي والاحتجاز كرهائن والنزوح القسري.
ويؤكد القانون الدولي على ضرورة ألا يكون الأطفال هدفا للهجمات بأي حال من الأحوال، ما لم يشاركوا بشكل مباشر في الأعمال العدائية. ويجب أن يعاملوا باحترام وحماية بشكل خاص. ويشمل ذلك الحصول على التعليم والغذاء والرعاية الصحية واتخاذ تدابير محددة لحماية الأطفال المحرومين من حريتهم والمنفصلين عن أسرهم.
هذا وينصّ قانون حقوق الإنسان- بما في ذلك اتفاقية حقوق الطفل عام (1989) وبروتوكولها الاختياري بشأن إشراك الأطفال في النزاعات المسلحة عام (2000)- على وجه التحديد، على الحاجة إلى حماية الأطفال من آثار النزاعات المسلحة.
وربما تنقطع أحلام الأطفال وآمالهم في مستقبل أفضل، إلا أن تالين لطالما راودها حلم قائلة: "كنتُ بحلم دايما أبقى ببيتنا مع عيلتي بس القصف الإسرائيلي حرمني هذا الشي، لكن راح أستمر وأكمل تعليمي لأصير مهندسة".