أثبتت أزمة الحكم التي يعيشها العراق، أن القبضة الإيرانية التي كانت تتحكم بمفاصل القرار وتوجهات القوى السياسية المسيطرة على المشهد السياسي لم تعُد فاعلة، أو قادرة على حسم الموقف بالسرعة التي كانت تحدث في الفترات الماضية.
النفوذ الإيراني في العراق كان قادراً على التأثير في مواقف جميع القوى، ولم يكُن محصوراً فقط داخل القوى والأحزاب والفصائل الموالية لطهران، أو تلك التي تدور في فلكها أو تتحالف معها استراتيجياً وتكتيكياً. بل كان يشمل جميع المكونات الأخرى، الكردية والسنية بمختلف أطيافها وتوجهاتها، الصديقة والمخالفة.
ووصل حجم ومستوى التأثير الإيراني في قرار القوى العراقية من مختلف المكونات، بخاصة منذ عام 2008 وما بعد، أن بعض هذه القوى التي كانت تعتبر نفسها منجسمة مع العمق العربي أو المحيط التركي أو تراعي بعض مصالح أنقرة، كانت تستجيب للتدخل أو الطلب أو الإرادة الإيرانية من دون الحاجة إلى كثير من لغة التصعيد، من خلال التقاط الإشارات والمؤشرات إلى مدى الانزعاج الإيراني وحجمه من مواقفها أو محاولاتها عرقلة خطط أو توجهات طهران.
المتحول الرئيس الذي أصاب نفوذ واستحكام القبضة الإيرانية، بدأ مع اللحظات الأولى من فجر الثاني من يناير (كانون الثاني) 2020 والإعلان عن قيام مسيّرات أميركية وبقرار مباشر من الرئيس السابق دونالد ترمب بتنفيذ عملية اغتيال قائد قوة القدس قاسم سليماني بالقرب من مطار بغداد، وحال الإرباك التي رافقتها بين قيادات الفصائل الموالية لإيران والمقربة منها، بعدما لمست التأثير الكبير لغياب الغطاء والمظلة اللذين كان يمثلهما سليماني في عمله على تدوير زوايا الاختلاف في ما بينها.
غياب ضابط الإيقاع دفع كل القوى العراقية، من مختلف المكونات، بخاصة داخل المكون الشيعي، إلى إعادة ترتيب أولوياتها، وتحصين مكتسباتها وتثبيت مصالحها، انجساماً مع تداعيات هذا الاغتيال وما سيؤدي إليه من إرباك نتيجة غموض الرؤية الإيرانية في التعامل مع هذا المستجد، على الأقل في المدى المنظور الذي تفرضه عملية اختيار البديل لسليماني والسياسات التي سيعتمدها في التعامل مع الساحة العراقية بخاصة، والساحات الإقليمية التي تشكل المدى الاستراتيجي للنفوذ الإيراني عامة.
المرحلة الانتقالية ما بين اغتيال سليماني واستلام خلفه اسماعيل قاآني مسؤولية قوة القدس بما فيها العراق، أدخلت القوى الموالية لإيران والمختلفة معها أو تلك المتمايزة عنها، في صراع واضح كان بمثابة صراع وجود واستمرار، انطلاقاً من محاولة كل طرف تكريس مكتسباته ومصالحه بغض النظر وبعيداً من أخذ المصالح الإيرانية في الاعتبار، ما أدى إلى ما يشبه القطبية أو الثنائية التي أعطت الصراع والمعركة على البقاء والاستمرار داخلياً، الأولوية على أي بعد آخر، بما في ذلك العمق الإقليمي الذي بدأ يأخذ ملامحه الواضحة، بتوزّعه بين العمق الإيراني والعمق المشترك العربي – التركي.
المتغيرات في المشهد السياسي العراقي بدأت بالتبلور بشكل واضح وحاسم مع نتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة في 10/10/2021 وما أسهمت به من إعادة رسم المشهد وتوزيع موازين القوى، وهي متغيرات برزت أولى مؤشراتها، قبل الانتخابات بنحو خمسة أشهر أواسط عام 2021، مع بدء التواصل واللقاءات الثنائية التي جرت بين التيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر من ناحية، ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي، والحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني والتي انتهت إلى إعلان تحالف ثلاثي ما بعد الانتخابات باسم "إنقاذ وطن"، بعدما استطاعت هذه الأقطاب جرّ زعيم تكتل عزم خميس الخنجر إلى جانبها، بتأثيرات عربية وجهود تركية جمعت وقرّبت بين الحلبوسي والخنجر برعاية مباشرة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس استخباراته هاكان فيدان، في مقابل قوى الإطار الشيعي الذي انسحب منه الصدر، قبل أن يأخذ صورته النهائية سياسياً وحزبياً وفصائلياً بتحالفاته مع الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة بافل طالباني وبعض القوى من المكون السني التي لم تبلور موقفها النهائي إلا بعد إعلان تحالف "السيادة" بين تكتل عزم - الخنجر وتكتل تقدم - الحلبوسي.
الانقسام داخل المشهد السياسي العراقي، ولّد معه انقساماً آخر، جمع المتضررين من التحالف الثلاثي (الصدر – بارزاني – الحلبوسي)، ما جعل كل مكون ينقسم عمودياً على نفسه، وخرج عن كونه تعبيراً عن صراع مصالح ومكتسبات، ليتحوّل إلى صراع بين قوى إقليمية تسعى إلى تثبيت مواقع في الإقليم من البوابة العراقية.
وتفاقم هذا الانقسام بعد فشل أو إفشال نتائج جلستي البرلمان الجديد في انتخاب رئيس للجمهورية واختيار المرشح لتشكيل الحكومة الجديدة. أي أن الصراع بات صراع إرادات على مستقبل العراق والمحور الذي ينتمي له، أي بين العمق الإيراني والعمق العربي المتقارب على المصالح مع تركيا.
الأمر الذي أوصل الأمور إلى انسداد حقيقي في العملية السياسية، ظاهرها المعركة على حقوق المكونات والجهة التي تريد الاستحواذ على موقعي رئاسة الجمهورية داخل المكون الكردي، ورئاسة الوزراء داخل المكون الشيعي، على الرغم من الشعار الذي أديرت به هذه المعركة بين توجه لإقامة حكومة غالبية وطنية تمسك بها التحالف الثلاثي، بخاصة الصدر، وبين حكومة غالبية رفعها "الإطار التنسيقي"، متذرّعاً بالدفاع عن حقوق المكون الشيعي ككتلة موحدة في تسمية رئيس الوزراء.
في حين أن حقيقة الأزمة كانت في مكان آخر، ملعبها صراع القوى الإقليمية، طهران من جهة، والعمق العربي واتهام دولة الإمارات بالإمساك بمفاصل هذا التوجه بالاعتماد على ما تربطها من علاقات وطيدة بالقيادة الكردية من ناحية، ومع رئيس البرلمان الحلبوسي عن المكون السني من ناحية أخرى، إضافة إلى ما تملكه من تأثيرات في التوجهات العربية لزعيم التيار الصدري، وهو اتهام يشمل أيضاً الدور التركي مع هذين المكونين بالتنسيق مع أبو ظبي.
ما يتسرب في الأيام الأخيرة من داخل الأروقة العراقية، وجود بوادر على تفاهمات بين طهران وأبو ظبي وأنقرة، على تمرير الاستحقاقات العراقية، وفتح طريق أمام تفاهمات تساعد على كسر الانسداد الذي وصلت إليه الأمور، بالاعتماد على نوع من الليونة بدأت بالظهور في الموقف الكردي، إلى جانب استعداد لدى تحالف "السيادة" بالتعاون الإيجابي للخروج، في حين يبقى الرهان على موقف الصدر الذي قد يكون أمام واحد من احتمالين، إما التمسك بموقفه بالدفاع عما يعتبر استحقاقاً لتياره في تشكيل الحكومة بعيداً من قوى الإطار، وما يعني إمكانية الذهاب إلى المعارضة في حال تم التوافق الداخلي والإقليمي على التسوية، وإما أن يذهب إلى الشراكة مع الإطار وتشكيل حكومة توافقية على أنقاض حكومة الغالبية السياسية.
يبدو أن الأيام العشرين المقبلة، وانتهاء الاعتصام الكلامي الذي التزمه الصدر حتى التاسع من الشهر المقبل، ستكون حافلة بجهود إنضاج هذه التسوية وكسر الانسداد القائم، وكلها ستكون رهن التسويات والتفاهمات الإقليمية والدولية بين المؤثرين في الساحة العراقية من واشنطن، مروراً بأبو ظبي، وصولاً إلى أنقرة وطهران!