بات جلياً ومعروفاً للقاصي والداني من المهتمين بالسياسة وبالشأن السوري تحديداً نَهَمَ رأس النظام السوري بالكلام والاستعراض الإنشائي، سواء في لقاءاته بأزلامه من محازبين وأركان حكم، أو من خلال لقاءاته المتلفزة التي انحصرت في المنصات الموالية له، أو تلك الراغبة في إعطائه فرصة تقديم نفسه بشكل مختلف بغية التعتيم على سيرته المليئة بالإجرام والفشل نحو طَيِّ صفحتها، أو من خلال منبر جامعة الدول العربية الذي استطاع التصريح من عليه بعد انقطاع دام اثني عشر عاماً صيف العام المنصرم في قمة جدة، يوم أطلق للملأ نظريته الجديدة التي ارتكزت على الانتقال بين الأحضان تبعاً للمصلحة التي يحققها كل حضن.
إلى أن انعقدت قمة المنامة في السادس عشر من أيار (مايو) الحالي، وصمت رأس النظام عن الكلام، تاركاً وراء سلوكه هذا إشارات استفهام ليس من الصعب فك رموزها.
وكعادتها، تحركت ماكينات النظام الإعلامية لإطلاق التبريرات والمسوغات التي توضح للرأي العام سبب هذا الصمت، والتي كان من أبرزها أن النظام يعمل أكثر مما يتكلم، وأن هذا الصمت هو الصمت الأكثر بلاغة وتأثيراً من الكلام.
بيد أنَّ الحقيقة بعيدة كل البعد عن ترهات إعلام النظام، لأن هذا الصمت جاء في سياق العجز عن الكلام، فماذا كان رأس النظام ليقول فيما لو تكلم؟
هل كان ليتجرأ على تحميل الدول العربية وزر انهياره عسكرياً وسياسياً واقتصادياً بسبب عدم تقديم الدعم له؟ فرية لا يمكن تصديقها.
هل كان ليتحدث عن سوريا واحدة موحدة ذات سيادة تحت سلطته؟ بالطبع هذه بضاعة أصبحت كاسدة.
هل كان ليدعي أنه ضبط حدوده ومنع تهريب كيبتاغونه وسلاحه إلى دول الجوار والعالم؟ هذا ضرب من خيال.
هل كان ليقول إنَّ البيئة في سوريا صارت مواتية لعودة اللاجئين إلى بيوتهم وهو الذي صرح أن الحياة فيها باتت مستحيلة في ظل عدم توفر الكهرباء والماء والرعاية الصحية. وهو الذي لا ينفك يصدر القانون تلو القانون للاستيلاء على بيوت المهجرين وأراضيهم؟
هل كان ليستطيع أن ينكر أن في السويداء ثورة سلمية عارمة تطالب برحيله هو ونظامه وتطالب بتطبيق القرار الدولي رقم 2254 الذي مرره مجلس الأمن بموافقة داعمتيه روسيا والصين؟
هل كان ليستطيع أن ينكر أنه يوغل في الممارسات القمعية من خلال تدوير رؤساء الأفرع الأمنية وتولية بعضهم كمحافظين في تأكيد على نهجه المخابراتي؟
كيف كان سيبرر للعرب تدهور ليرته حَدَّ الذوبان؟
كيف كان سيبرر تدافع السوريين للحصول على جوازات سفر للهرب من بلادهم ومن بين أهليهم؟
كيف كان سيبرر تنامي الكوادر السورية في المهاجر وانكماشها في سوريا؟
كيف كان سيقرأ قدرة المواطن السوري على التعبير عن ذاته وبراعته وكفاءته وإبداعه في أقاصي أرض لم يكن يفكر في الرحيل إليها بينما لم يكن النظام يسمح له بتحرير جملة على منصة أو إطلاق تغريدة على أخرى؟
لم يكن صمت رأس النظام منجاة له للخروج من مأزق التزييف والرياء فحسب، بل إن صمته جنبه حرج خوض غمار الشأن الذي خيم على جدول أعمال القمة، جرح غزة العميق، الجرح الذي لم يكن بوسع النظام تبرير حياده اتجاهه وامتناعه عن اتخاذ موقف حتى ولو على مستوى التصريح، وهو أضعف الإيمان، لكن الحقيقة أن النظام لم يتخذ يوماً إجراءً حيال تعرضه لقصف أسبوعي من قبل الكيان الصهيوني، فكيف له أن يخطو خطوة عملية باتجاه الدفاع عن غزة؟ فبماذا يبرر خيار صمت القبور الذي لازمه منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الفائت؟ وهل كان سيذهب بعيداً في تأكيد انتمائه إلى محور المقاومة؟
إقرأ أيضاً: فيصل القاسم... ما لَهُ وما عَلَيَّ
الحقيقة أنَّ قمة المنامة أوقعت رأس النظام الحاكم في سوريا في مأزق جديد، فهو حضر ليسمع اتهامات صريحة ضده بتمرير المخدرات والأسلحة إلى دول شقيقة، وحضر ليسمع تذمر جيرانه من حالة النزوح التي أسس لها من خلال ممارسته سياسة الترهيب والقتل والتدمير، وحضر ليسمع تأييد جامعة الدول العربية لحل سياسي في سوريا على قاعدة القرار الدولي 2254، وحضر ليؤكد عجزه عن التخلي عن المحور الذي أوصله إلى هذا المستوى من السقوط، في مقابل يأس الحاضنة العربية من إعادة تأهيله كخطوة أولى في طريق إرساء حل عادل للمسألة السورية.
في كافة الأحوال، وحتى لو تجرأ الجنرال وألقى كلمة، لم يكن ليصغي إليه أحد، لأن الجميع باتوا يتبرمون ويتذمرون ويضيقون ذرعاً بما يطرح.
قالت العرب: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وفي كلام رأس النظام الحاكم في سوريا هَذَرٌ ومضيعة للوقت... فبماذا يُقاس سكوتُه؟