في مؤشر جديد على تفاقم حالة الانقسام والاستقطاب الدولي، غابت الصين عن قمة العشرين التي استضافتها مؤخراً الهند، حيث يمثل هذا الغياب علامة خطيرة على إنحسار فرص التفاهم والتوصل إلى حلول تخص الاقتصاد العالمي، وبالدرجة ذاتها يدل على أن الصين باتت تمتلك من المكاشفة والمبادرة الذاتية ما يؤهلها لمقاطعة قمم واجتماعات دولية كبرى ترى أنها لن تضمن فيها تحقق مصالحها وأهدافها الذاتية.
بلاشك أن اجتماع أكبر اقتصادات العالم من دون الصين يمثل معضلة للمشاركين، حيث يصعب الإتفاق على قرارات جماعية تضمن إستقرار الاقتصاد العالمي ومواجهة التحديات المتزايدة، ناهيك عن الرسائل السياسية المتضمنة في هذا الغياب، حيث تعد مجموعة العشرين الإطار المؤسسي الدولي الوحيد الدال على التعددية الدولية وصنع القرار التشاركي في ظل غياب أي دور فعّال للأمم المتحدة ومؤسساتها مثل مجلس الأمن وغيره.
في مقابل تقلّص فرص التوافق في مجموعة العشرين نلحظ أن الصين يمكن أن تستثمر في مجموعة دولية أخرى قد تراها أكثر فاعلية وقدرة على تحقيق أهدافها المستقبلية وهي مجموعة "بريكس" التي ضمت مؤخراً عدداً من الدول الإقليمية المؤثرة منها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومصر وإيران.
مجمل هذه الإشارات الكاشفة لحالة الاستقطاب والتجاذبات الدولية المتزايدة تفسر حديث الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مؤخراً عن تفكك النظام العالمي وما يمثله من خطر على العالم، وهو ما يراه الجميع بالفعل ويتابع تطوراته وأعراضه، ولكن حديث المسؤول الأول عن الأمم المتحدة عن الظاهرة ربما يؤكد أنها باتت حقيقة واقعة استدعت منه إطلاق جرس انذار لتنبيه العالم إلى تداعياتها وتأثيراتها السلبية المتوقعة.
غياب الصين عن قمة العشرين أثار تساؤلات عديدة حول أسبابه، التي تتمحور في أغلبها حول أمور بعينها منها الموقف من الحرب في أوكرانيا، حيث واجهت القمة صعوبة في بناء موقف مشترك حيال الأزمة، حتى أن روسيا أعلنت مسبقاً أن التدخل الغربي في قمة بالي الأخيرة للمجموعة يشير إلى صعوبة تكرار الموقف ذاته الصادر عن تلك القمة. حيث نص بيان قمة بالي على أن"غالبية" الدول الأعضاء في مجموعة العشرين "تدين بحزم الحرب في أوكرانيا" وتعتبر أن هذا النزاع "يقوض الاقتصاد العالمي".
ثمة نقطة أخرى مهمة للغاية بالنسبة للصين، وهي أنها ترى أن الهند تراهن على استضافة القمة لتعزيز مكانتها كقوة دولية قادرة على أن تمثل دول الجنوب في مواجهة النفوذ الغربي، وهو الدور الذي تراهن عليه الصين تماماً من خلال مجموعة "بريكس"، وتدرك في الوقت ذاته أن الغرب يميل إلى تقوية النفوذ الهندي لمواجهة الصعود الصيني عالمياً، ولهذا فإن الصين لن تحصل من القمة على ماتريد وسط هذه الأجواء شديدة الاستقطاب.
الولايات المتحدة أيضاً تسعى إلى تقويض الدور والنفوذ الصيني في دول الجنوب، ولهذا فإن غياب الرئيس شي جين بينغ يمثل فرصة لها لدعم النفوذ الهندي فضلاً عن كسب أرضية جديدة في مواجهة الصين على هذا الصعيد، وهذا ما يفسر تصريح جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي الذي اعتبر غياب الرئيس الصيني محاول "لإفساد لحظة ناريندرا مودي الكبرى"، حيث سعت الهند للإعلان عن منح الإتحاد الأفريقي مقعداً على طاولة قمة العشرين، بكل ما يعنيه ذلك بالنسبة للقارة الأفريقية التي باتت تسعى بقوة لإسماع صوتها عالمياً.
بالتأكيد فإن للصين حساباتها وتقديراتها الاستراتيجية الدقيقة، وترى حجم الاهتمام الأميركي بدعم رئيس الوزراء الهندي مودي في إطار صراعه الاستراتيجي مع الجار الصين على النفوذ، وسعي واشنطن الحثيث لإنجاح القمة بكل الطرق من خلال ما وصف أمريكياً بـ" عرض قيم" لتخفيف الديون وهيكلتها والاجراءات الخاصة بأزمة المناخ.
في جميع الأحوال، يمثل الغياب الصيني عن أحد أهم الاجتماعات الدولية، حيث تمثل مجموعة العشرين 85% من إجمالي الناتج العالمي، و 75% من حجم التجارة العالمية، وثلثي سكان الأرض، مثالاً جديداً على احتدام الصراع على قيادة النظام العالمي، وموقع الصين فيه، حيث تريد بكين إرسال رسائل قوية بأهمية دورها ووجودها في إطار قيادة تعددية للنظام، ولكن الولايات المتحدة تريد أن تشوش على هذه الرسالة في إطار صراعها مع الصين ومحاولة اثبات قدرتها على قيادة النظام العالمي.