الرباط: ظل الكاتب المغربي الراحل عبد الكريم غلاب، الذي وافاه الأجل المحتوم أخيرا في سن الثامنة والتسعين، مسكونا بهاجس الكتابة حتى آخر حياته، رغم الضعف الذي طرأ على بصره، والمرض الذي كان يعاني منه.
ومن آخر مؤلفاته، الكتاب الجديد الذي أصدره عن رفيق دربه في النضال السياسي داخل حزب الاستقلال، الموسوم بعنوان "محمد بوستة..الدبلوماسي الحكيم"، الذي يستعرض فيه صفحات من السيرة الذاتية لهذه الشخصية السياسية، في مختلف المناصب والمسؤوليات السياسية التي تولاها،بحنكة واقتدار، سواء كأمين عام سابق لنفس الحزب، أو كوزير سابق للخارجية المغربية.
قال في بداية مقدمة الكتاب:" في ساعة الصفر من يوم الجمعة 17 فبراير 2017 ، فجع المغرب والعائلة الاستقلالية بغياب محمد بوستة: عميد من أعمدة الحركة الوطنية ومناضل من مناضليها، وقد تولى الأمانة العامة لحزب الاستقلال لأطول مدة قاده فيها زعيم من زعمائه منذ تأسيسه (1943)".
بوستة نجح وفشل
ومن خلال شخصية بوستة يتطرق غلاب، الذي يعتبر أحد منظري هذا التنظيم السياسي العريق، ومفكريه، ومبتكر فكرة " التعادلية" التي انبنتعليها أسس الأطروحة الإيديولوجية لأقدم حزب في المغرب، إلى مختلف المراحل والمحطات السياسية التي واجهها بعد فترة الحماية وبزوغ فجر الاستقلال.
وبأسلوبه الأدبي الذي ينهل من التاريخ، أوضح صاحب رواية "المعلم علي" التي أسست لهذا الصنف الأدبي في المملكة، أنه "كان على الحزب، وهو يسعى إلى استقلال المغرب، أن يكون الرجال الذين يتحملون المسؤولية فيه، وكان محمد بوستة من الرجال الذين ساعدهم القدر ليكون من الماهدين".
وقال عنه أيضا: "نجح وفشل.. وسيكتب التاريخ فترات النجاح، وينسبها لصاحبها، وفترات الفشل وينسبها إلى الذين كانوا يناورون، دون شفقة، هادفين إنماء مصالحهم الذاتية، غير عابئين بمصالح الوطن العليا".
اعتبر غلاب، عضو أكاديمية المملكة المغربية،أن من واجبه، أن يقدم معرفته بمحمد بوستة، كما عايشه عن كثب، زمنا طويلا، "إلى الجيل الذي لم يسعد بمعايشته، وإلى الأجيال القادمة التي قد تستفيد من دروس قدمها في تحركاته النضالية والفكرية، وإلى الذين سمعوا به دون أن تتاح لهم الفرصة ليسبروا أغواره".
إيمان عميق بافريقيا
استهل غلاب كتابه بالتوقف عند عبارات أدلى بها بوستة "بانفعال وتأثر، قبل وفاته بأيام قليلة"، وجاء فيها على لسانه:" يتحتم أن نلغي الحدود بين موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا بهدف إنشاء اتحاد الشمال الإفريقي، وهي مرحلة أولى قبل انضمام مصر والسودان في مستقبل الأيام".
بهذه الكلمات، يردف غلاب، أكد بوستة إفريقيته منذ أن كان طالبا في باريس، يعمل في إطار "جمعية طلبة شمال إفريقيا" (1946ـ 1950) مرورا بعمله في أول وزارة خارجية للمغرب المستقل حيث شارك تحت ريادة أحمد بلافريج في وضع اللبنات الأولى لسياسة المغرب الإفريقية في ظل كفاح شعوب ودول إفريقيا لانعتاقها من الاستعمار وتكوين مستقبلها.
واستطرد قائلا إن إيمان محمد بوستة بافريقيا تبلور أيضا خلال مشاركته الفعالة في إعداد أول مؤتمر قمة للدول الإفريقية المتحررة المنعقد في الدار البيضاء (يناير 1961) تحت رئاسة الملكً الراحل محمد الخامس.
وتكرس هذا التوجه أيضا عند ترؤسه لبعثة ميدانية مهمة مكثت شهورا في الكونغو،عقب محاولة انفصال إقليم كاتنغا عن الوطن الأب، وقدر له أن يطوف افريقيا حينما ولي مسؤولية وزارة الخارجية ( 1977 1983)، دفاعا عن الصحراء المغربية غداة استرجاعها بالمسيرة الخضراء.
وكشف الكاتب أن بوستة عاين، "قرير العين"، عودة المغرب إلى عائلته الإفريقية بعد غياب اضطراري دام ثلث قرن (1984 2017)، وشاهد عاهل البلاد يوطد، بعد أن أصبحت افريقيا متحررة متماسكة بإمكاناتها، علاقات التعاون بين مختلف دولها، وبين المغرب بهدف تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية، فاعلة ومستدامة.
الكفاح ضد الاستعمار
وفي استرجاعه لذكريات صبا بوستة وتنشئته في مراكش،حيث تفتق الوعي الوطني لديه، يشير غلاب إلى انخراطه في الكفاح ضد المستعمر الفرنسي ومشاركته في التظاهرات، رغم تعرضه "للضرب والجلد والتنكيل من العسس العاملين تحت إمرة التهامي الكلاوي،باشا المدينة، واليد اليمنى للاستعمار، وممثل الإقطاع الذي كان يضاهي إقطاع المعمرين".
ولعله من مكر الصدف أن تكون أول قضية تواجه بوستة، بعد استكمال دراسته في فرنسا وعودته إلى المغرب لممارسة المحاماة،أن يترافع في ملف ترامي أحد المعمرين في تارودانت (جنوب المغرب) على أراضي صغار الفلاحين، في إطار فترة تدريبه عند الأستاذ أنطوان رينيي، أحد كبار المحامين المتنورين المتعاطفين مع القضية الوطنية بمدينة الدار البيضاء.
ويحكي غلاب أنه بعد الكفاح الذي خاضته المقاومة المغربية من أجل الحرية، كان من نصيب بوستة وعبد الرحيم بوعبيد أن يكونا على رأس الوفد الذي مهد لتحقيق هدفي المغرب الأساسيين: عودة محمد الخامس والاستقلال،عقب اختيارهما من طرف قيادة الحزب لمفاوضة إدغار فور ، رئيس الحكومة الفرنسية، في شهر مارس 1955،"نظرا لتكوينهما المزدوج القانوني والسياسي، ونظرا كذلك لمعرفتهما بالعقلية الفرنسية".
مسؤوليات حكومية
عين أحمد بلافريج،أول وزير للخارجية في ظل المغرب المستقل، (26 أبريل 1956)، ولم يطل تفكيره وهو يبحث عن الشخص المناسب لمساعدته في هذا المنصب،فاهتدى إلى بوستة "ليكون سنده الأول في وزارة الخارجية"،حسب تعبير غلاب.
لم تدم ولاية بلافريج على وزارة الخارجية سوى سنتين (أبريل 1956 مايو 1958) في ظل حكومتي مبارك البكاي الأولى والثانية، وقد تميزت هذه الفترة بربط العلاقات الدبلوماسيةً مع عدد كبير من الدول، وفي مقدمتها الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وعلى رأسها فرنسا، الدولة التي كانت حامية للمغرب.
وكان أهم الإنجازات الأولى لوزارة الخارجية، من وجهة نظر غلاب، استرجاع طرفاية من اسبانيا (أبريل 1958).
وجاءت حكومة بلافريج (مايو ديسمبر 1958)، حيث احتفظ بوزارة الخارجية إلى جانب رئاسته للحكومة، وخلالها تولى بوستة مسؤولية كتابة الدولة في الخارجية،" ورغم قصر حياة هذه الحكومة، فقد أرسى بوستة قواعد ادارية وتنظيمية حديثة ساهمت في بلورة عمل هذه الوزارة لمدة طويلة".
وانسحب بوستة من العمل الحكومي إثر تولي حكومة عبد الله ابراهيم الحكم (ديسمبر 1958ــ مايو 1960) عائدا إلى ممارسة مهنته الأصلية المحاماة، قبل أن تتم الاستجابة إلى ترشيح حزب الاستقلال له في الحكومة التي ترأسها الملك المرحوم محمد الخامس (27 مايو 1960) لمنصب وزارة الوظيفة العمومية.
وفي عهد الملك الراحل الحسن الثاني،تحمل مسؤولية وزارة الخارجية (1977ـ 1983) عقب استرجاع اقليم الساقية الحمراء، وقد كان "شخصية دبلوماسية محترفة على مستوى دولي استفاد منها المغرب في الدفاع عن حقوقه ومصالحه"، في فترة عرف فيها الصراع مع الجزائر أوجه حول قضية الصحراء، في مختلف المحافل الدولية.
يوم تولى الأمانة العامة
ويذكر غلاب أنه نظرا لمسؤولياته في الأمانة العامة لحزب الاستقلال،بعد وفاة الزعيم علال الفاسي،(13 مايو 1974)، اعتزل بوستة مهنة المحاماة بعد مسار استمر زهاء ربع قرن (1951ـ 1974)، ماعدا الفترة التي تولى فيها مسؤوليات حكومية.
وكان بوستة قد حاول أن يتملص من الأمانة العامة للحزب يوم اقترحت عليه، من طرف رفاقه في القيادة، غير أنهم تمسكوا به، مؤكدين أن اختياره "مصيب وأنه لاسبيل لإطالة الحديث في الموضوع"،وانتخب بالإجماع في المؤتمر التاسع للحزب (13 15 سبتمبر1974) أمينا عاما بالإجماع، وعمل في هذه المهمة أربع وعشرين سنة،إلى غاية سنة 1998،" صمد خلالها في وجه الأعاصير التي واجهت الحركة الوطنية، "وحقق عددا من الخطوات التي كان حزب الاستقلال فيها قويا أمام الرياح المعاكسة"، وقد انتقلت الأمانة العامة للحزب بعده، كما يعلم الجميع،إلى عباس الفاسي،في المؤتمر الثالث عشر (20 ــ21 فبراير 1998).
وعلى مدى مساره السياسي والحزبي والبرلماني أثبت بوستة أن السياسة عنده موقف ومبدأ، وليس مجرد شعار للاستهلاك الإعلامي. و أورد غلاب في الكتاب الكثير من معاركه من أجل إجراء الانتخابات في جو تسوده النزاهة والديمقراطية، ولطالما كانت له معارك سياسية مع الراحل إدريس البصري، وزير الداخلية سابقا.
حين رفض الوزارة الأولى
ولقد كان موقفه واضحا وحاسما حين عهد إليه بتأسيس أول حكومة تناوب في تاريخ المغرب السياسي،سنة 1994 فقد اعتذر بعد التشاور مع حلفائه في الكتلة الديمقراطية، "عن عدم استطاعته تكوين حكومة من دون سند قوي من البرلمان، ومن أعضائها المهيمنين إدريس البصري، وزير أم الوزارات"، كما كانت الداخلية تلقب في عهد ادريس البصري.
ولم يتأت لحكومة التناوب أن تخرج إلى حيز الوجود إلا إثر الانتخابات التشريعية الموالية عندما عين عبد الرحمن اليوسفي، الكاتب الأول ( الأمين العام) للاتحاد الاشتراكي سابقا، في منصب الوزير الأول (14 مارس 1998).
ويعلق غلاب على ذلك التعيين بقوله:" ظل هرم مهندس التزوير قابعا في الحكومة،ولم تنته أسطورته إلا بعد تولي الملك محمد السادس عرش البلاد بمائة يوم (9نوفمبر 1999).
جوانب ومحطات وإسهامات كثيرة لبوستة تحدث عنها غلاب بالكثير من التفاصيل، يصعب استعراضها كلها، ومن أبرزها رئاسته،بتكليف من الملك محمد السادس،للجنة ملكية استشارية لوضع مدونة حداثية للأسرة.
ونظرا لحكمته وبعد نظره واتساع خاطره، فقد قامت اللجنة على مدى عشرين شهرا بواجبها، "ورغم الصعاب التي واجهتها،نجح بوستة في التوفيق بين الأطراف في وضع مدونة جديدة للأسرة."