في أعقاب الإعلان الرسمي عن ميزانية المملكة العربية السعودية لعام 2026، واستكمالاً للصورة الاقتصادية الشاملة التي رسمتها الأرقام المالية، كشف وزير الاقتصاد والتخطيط فيصل الإبراهيم خلال المؤتمر الصحفي لتفاصيل الميزانية عن مؤشر بالغ الأهمية: 74 نشاطاً اقتصادياً محورياً حققت نمواً سنوياً ثابتاً يتجاوز 5 بالمئة على مدى السنوات الخمس الماضية. لم يكن هذا الإفصاح مجرد بيان إحصائي لاحق، بل جاء ليكمل قصة النجاح التي بدأتها أرقام الميزانية، وليترجم الأهداف الكلية إلى إنجازات قطاعية ملموسة، مؤكداً أن الزخم التنموي الذي تشهده المملكة ليس ظاهرة عامة فحسب، بل هو مدعوم بأداء قوي ومتنوع عبر عشرات المسارات الاقتصادية المتخصصة التي تشكل مجتمعةً هيكل الاقتصاد الجديد. فقد أوضحت أرقام الوزير أن هذه المجموعة من الأنشطة كانت المحرك الرئيسي وراء تحقيق القطاع غير النفطي لنمو تجاوز 4.7 بالمئة في الربع الثالث من العام الماضي، وأنها ساهمت بشكل مباشر في خفض الاعتماد على إيرادات النفط من 70 بالمئة قبل سنوات إلى ما يقارب 60 بالمئة في الوقت الحالي، وهو تقدم يضع المملكة على مسار متسارع نحو تحقيق أهداف رؤية 2030 الطموحة.
جاء هذا التوضيح التفصيلي في سياقه الطبيعي كتطبيق عملي لاستراتيجيات الميزانية التي أُعلنت للعام المقبل، حيث يربط مباشرة بين التخصيصات المالية والنتائج الميدانية. فمثلاً، عند إعلان الميزانية عن تخصيصات جديدة للبنية التحتية اللوجستية والرقمية، يأتي كشف الوزير ليثبت أن قطاعات مثل النقل والتخزين والتجارة الإلكترونية قد نمت بأكثر من 10 بالمئة، مما يبرر تلك التخصيصات ويعزز ثقة المستثمرين في حكمة الإنفاق الحكومي. وعندما تتحدث الميزانية عن دعم الابتكار وريادة الأعمال، تقدم أرقام الأنشطة الـ 74 الدليل على أن قطاعات التقنية المالية والخدمات المهنية المتخصصة قد قفزت بنسب نمو تفوق 15 بالمئة، مما يحول السياسات العامة إلى قصص نجاح واقعية. هذا الربط العضوي بين الميزانية كخطة مستقبلية والأداء القطاعي كحقيقة قائمة، يعطي مصداقية غير مسبوقة للتخطيط الاقتصادي السعودي، ويظهر أن المملكة لا تعلن عن آمال عامة، بل تُقدم تقرير أداء دقيق عن استراتيجيات ناجحة قيد التنفيذ.
هذه "الشفرة الاقتصادية" المتمثلة في 74 نشاطاً تُترجم على أرض الواقع إلى تحرّكات استثمارية ضخمة. فلننظر إلى الأرقام: حيث يتدفق ما يزيد عن 17 مليار ريال من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في غضون ستة أشهر فقط، وترتفع حصة القطاعات غير النفطية من الناتج المحلي لتتجه نحو تجاوز حاجز الـ 50 بالمئة بحلول 2025. هذه ليست توقعات وردية، بل هي حقائق تدعمها قفزة قطاع التقنية المالية (فينتيك) بنسبة 18 بالمئة، وارتفاع أعداد السياح الدوليين إلى 27 مليوناً، ونمو سوق التجارة الإلكترونية ليصل إلى أكثر من 100 مليار ريال خلال السنوات القليلة المقبلة. كل رقم من هذه الأرقام هو دليل ملموس على أن هذه "المسارات الـ 74" هي طرق سريعة فعّالة، وليست مجرد مسارات ترابية.
لكن السؤال المصيري الذي يلي هذا الكشف هو: كيف يمكن فكّ هذه الشفرة واستخدامها لصالح الجيل القادم من المستثمرين والشباب؟ الجواب يبدأ بتحويل البيانات إلى أدوات عملية. تخيّل منصة ذكية تُدخل فيها اهتمامك وخبرتك، فتخرج لك تقريراً عن أكثر 5 أنشطة من بين الـ 74 تناسبك، مع دراسة جدوى أولية وتوصية بمقدار الاستثمار المبدئي. فكّر في "مسرّعات قطاعية" متخصصة، لا تكتفي بتقديم التمويل، بل تمنحك الوصول إلى شبكة المورّدين والعملاء والخبراء في مجال السياحة العلاجية أو التصنيع الدوائي أو الخدمات اللوجستية الذكية. هذا هو بالضبط ما تحتاجه المرحلة القادمة: آلية تحوّل المؤشر الكلي إلى فرص شخصية.
ولا يقتصر الأمر على ريادة الأعمال وحدها، بل يمتد إلى مستقبل الوظائف. فمع دخول شركات عملاقة مثل "أمازون ويب سيرفيسز" و"أوراكل" و"هيونداي" باستثمارات تتجاوز مليارات الدولارات، تتغير خريطة المهارات المطلوبة في السوق. لن يعود الطلب مركزاً على التخصصات التقليدية، بل سينتقل إلى وظائف مثل "محلل بيانات السلسلة اللوجستية"، و"مطوّر حلول الطاقة المتجددة"، و"خبير التسويق للتجارب السياحية الفاخرة". وهذا يستدعي تحولاً جذرياً في برامجنا التعليمية والتدريبية، بحيث لا نعلم الشباب كيف يبحثون عن وظيفة، بل كيف يصنعون فرص عمل داخل هذه الأنظمة الاقتصادية الجديدة.
توقيت هذا الإعلان، بعد إعلان الميزانية مباشرة، يحمل رسالة مزدوجة الأهمية: للأوساط المالية والمستثمرين، فإنه يقدم الضمانات التشغيلية على أن الميزانية الجديدة تُبنى على أسس صلبة من النجاح القطاعي المثبت، وليس على التوقعات فقط، مما يقلل المخاطر المتصورة ويدفع باتجاه زيادة التدفقات الاستثمارية. وللشباب السعودي، فإن تحويل الحديث من الأرقام المالية الكلية إلى الفرص القطاعية التفصيلية يفتح نافذة عملية على المستقبل، حيث يمكنهم الآن رؤية المسارات الوظيفية والاستثمارية الأكثر ديناميكية وربطها مباشرة بالدعم الحكومي المعلن في الميزانية. وهو ما يؤكد أن التحول الاقتصادي التاريخي لم يعد مشروعاً حكومياً بحتاً، بل أصبح واقعاً تشاركياً يمكن للجميع قراءة اتجاهاته والمساهمة في صياغة فصوله القادمة، في تعاون وثيق بين سياسات مالية حكيمة، واستثمارات قطاع خاص واثقة، وطاقات بشرية طموحة.

