لم يعد السؤال اليوم: هل يقترب العالم من الفوضى؟ بل صار: كيف نواجه فوضى أصبحنا جزءًا منها فعليًا؟ لقد تجاوزنا مرحلة التحذير، ودخلنا زمن الاضطراب العالمي، حيث تتقاطع السياسة مع التكنولوجيا، ويتماهى الواقع مع الافتراض، وتتآكل الحدود بين الدولة والمجتمع، وبين الحقيقة والوهم. هذه ليست أزمة عابرة، بل تحوّل بنيوي يمسّ جوهر النظام الدولي الحديث.
الفوضى التي نعيشها لم تنشأ فجأة، بل هي نتاج تراكمات طويلة من التوترات السياسية، والتدخلات الاقتصادية، والتطور التكنولوجي غير المنضبط. في العقدين الأخيرين، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا جوهريًا في تفكيك المنظومات التقليدية للسيطرة والمعلومة، فباتت المنصات الرقمية قادرة على إشعال الشوارع أو تهدئتها، وتحديد اتجاه الرأي العام في دقائق. في المجتمعات التي تفتقر إلى الوعي الرقمي أو الرقابة المؤسسية، تحوّلت هذه المنصات من أداة للتواصل إلى سلاح فوضوي عابر للحدود. تقرير صادر عن مركز Pew Research الأميركي (2024) أشار إلى أن أكثر من 68% من مستخدمي الإنترنت حول العالم لا يتحققون من صحة الأخبار التي يتلقونها عبر المنصات، ما يجعل الفضاء الرقمي بيئة خصبة للتضليل والانقسام.
هذه الفوضى لم تعد نظرية، بل واقعًا ماثلًا أمامنا. ففي أوروبا، تتحدث تقارير عدة عن تصاعد عدد "المناطق المحظورة" أو ما يُعرف بـ no-go zones في بعض المدن الكبرى، حيث يصعب على الشرطة أو سيارات الإسعاف الدخول إليها بعد اشتباكات متكررة ذات طابع اجتماعي أو ديني، كما حدث في ضواحي باريس وبروكسل وستوكهولم. وفق تقرير نشره معهد الشرق الأوسط للأبحاث (ME Forum, 2023)، فإن هذه المناطق باتت تمثل "دولًا مصغّرة داخل الدولة"، وتُعد أحد أبرز مظاهر تآكل سلطة المؤسسات الرسمية في قلب أوروبا.
أما في الولايات المتحدة، فقد أصبحت مشاهد الحرس الوطني في الشوارع مألوفة خلال الأعوام الأخيرة، خصوصًا في مدن مثل شيكاغو وبورتلاند ولوس أنجلوس، التي شهدت احتجاجات عنيفة وارتفاعًا غير مسبوق في معدلات الجريمة. وفي آب (أغسطس) 2024، نشرت شبكة ABC News تقريرًا أكدت فيه أن وزارة الأمن الداخلي الأميركية طلبت دعم الحرس الوطني في عدد من المدن بعد تصاعد أعمال العنف والنهب، وهو ما عُدّ مؤشرًا على تراجع فعالية الأجهزة الأمنية التقليدية في احتواء التوترات الداخلية.
وفي آسيا وأفريقيا، تتكرر المشاهد نفسها بأشكال مختلفة. في بنغلاديش اندلعت احتجاجات واسعة في تموز (يوليو) 2024 إثر أزمة الوقود وغلاء المعيشة، تحوّلت إلى مواجهات عنيفة بين المواطنين وقوات الأمن. وفي المغرب، شهدت مدن عدة اضطرابات متفرقة بسبب البطالة وارتفاع الأسعار. هذه الأحداث ليست ربيعًا عربيًا جديدًا ولا فوضى موسمية، بل انعكاس لموجة اضطراب عالمي واحدة تتغذى من المناخ الرقمي المتوتر، والانكشاف الاقتصادي، والاحتقان السياسي المتنامي.
لكن الخطر الأعمق يكمن في أن الفوضى أصبحت تتسرّب إلى عقول الأجيال الجديدة عبر العالم الافتراضي. الألعاب الإلكترونية الجماعية، والمحتوى العنيف على المنصات المرئية، جعلت الحدود بين الواقع والخيال ضبابية. كثير من الشباب اليوم يعيشون في فضاء رمزي يخلط بين الحرب الحقيقية واللعبة الرقمية، دون إدراك أن خلف تلك الشاشات تقف جهات مجهولة تُعيد تشكيل الوعي الجمعي، وتُعيد تعريف معنى "الخطر" و"العدو".
إزاء هذا المشهد، تقع على الأسرة مسؤولية متزايدة، ليس في الرقابة القمعية، بل في المتابعة الواعية والتواصل الفعّال. يجب على الآباء أن يدركوا أن أبناءهم يعيشون في عالم مزدوج — واقعي وافتراضي — وكلاهما قادر على تشكيل قيمهم وسلوكهم. الحوار، والوعي، والاحتواء، هي أدوات التربية الجديدة في زمن الفوضى الرقمية.
أما على مستوى الدولة، فإن حماية المجتمع لا تعني كبت الحريات أو تقييد التعبير، بل تستلزم بناء استراتيجية رقمية ذكية توازن بين حرية الرأي والأمن الوطني. كثير من الدول باتت تدرك أن الفوضى الرقمية لا تُواجه بالحجب والمنع، بل بالتثقيف، والمساءلة، والشفافية. لقد حذّرت الأمم المتحدة في تقريرها الصادر عام 2025 حول "أمن الفضاء الإلكتروني" من أن غياب الأطر القانونية الرادعة لاستغلال المنصات الإلكترونية قد يؤدي إلى "تصاعد موجات فوضى اجتماعية مدمّرة في السنوات القادمة".
ورغم كل هذا، لا يزال الوقت متاحًا للتحرك. فالفوضى ليست قدرًا محتومًا، بل نتيجة خيارات بشرية يمكن تصحيحها. لكن التأخر في إدراك حجم الخطر سيجعل الثمن أفدح. إننا نعيش لحظة مفصلية في التاريخ المعاصر، حيث يُعاد تعريف مفهوم الدولة والمجتمع في ظل طوفان رقمي متسارع. علينا أن نختار: إما أن نتحكم في التكنولوجيا، أو نسمح لها بأن تتحكم في مصيرنا.