في عالمٍ تتسارع فيه التغيرات وتتشابك فيه القضايا، لم تعد السياسة مجرّد ممارسة للسلطة، بل تحوّلت إلى حالة من الحضور المستمر في حياة الأفراد والمجتمعات. هذا التحول الذي تصفه الأدبيات الحديثة بـ «السياسة المفرطة» (Hyperpolitics) يمثل نقطة الانطلاق في المصفوفة النظرية الجديدة التي تقترحها المدرسة الديناميكية — نموذج فكري يسعى إلى تحويل وفرة الخطاب السياسي إلى أداء مؤسسي قابل للقياس.
السياسة المفرطة: من التفاعل إلى التشبّع
تعكس السياسة المفرطة حالة من الإشباع السياسي، حيث يغدو النقاش العام غاية في ذاته، متجاوزًا وظيفته الأصلية في صنع القرار. وهنا تكمن المفارقة: فالانفتاح الهائل الذي أتاحته التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي جعل السياسة في كل مكان، لكنه جعلها أيضًا أقل فاعلية.
التحول إلى الحوكمة النشطة
من رحم هذا التشبع، تولد المرحلة الثانية من المصفوفة: «التحول إلى الحوكمة النشطة» (Hyper-active Governance)، وهو المفهوم الذي يصف استجابة الدولة الحديثة لضغوط المشاركة والشفافية، عبر حوكمة سريعة ودقيقة في الوقت نفسه.
في هذا المستوى، تتحول الدولة من مجرد مراقِبٍ للخطاب العام إلى فاعلٍ يضبط إيقاع الزمن الإداري والسياسي، ويُعيد التوازن بين القرار والشرعية.
الفعالية المفرطة: عندما تُقاس السياسة بالأثر
تبلغ المصفوفة ذروتها في مرحلتها الثالثة: «الفعالية المفرطة» (Hyper-effectiveness)، حيث لا يُقاس النجاح بعدد الخطابات أو الوعود، بل بقدرة الدولة على تحويل الرؤية إلى أرقامٍ ومؤشرات أداء.
في هذا السياق، تُجسّد رؤية السعودية 2030 التطبيق الأبرز لهذا النموذج، إذ نجحت في تحويل الطاقة الخطابية إلى نتائج قابلة للقياس عبر منظومة ضبط ثلاثية (الزمن – المرونة – الواقعية)، جعلت من الدولة نموذجًا عالميًا للحكم القائم على الإنجاز.
المملكة ونموذج الحوكمة المرنة عالميًا
تتجاوز هذه المصفوفة الإطار النظري لتقدّم خريطة طريق للحوكمة المرنة في القرن الحادي والعشرين، حيث لم تعد السيادة مجرّد حدود سياسية، بل قدرة على التكيّف مع عالمٍ متحوّل.
لقد استطاعت المملكة أن تؤسس من خلال رؤية 2030 لمدرسةٍ جديدة في إدارة التغيير، تزاوج بين الهوية والاقتصاد والبيئة، وتضبطها عبر الزمن والمرونة والواقعية، لتصبح التجربة السعودية مختبرًا عالميًا للحكم الديناميكي القائم على الأداء.
بهذا المعنى، لا تمثل المصفوفة الثلاثية مجرّد إطار أكاديمي، بل تجسّد منهجًا سعوديًا في التفكير السياسي المعاصر، يضع الفعالية فوق الجدل، ويُعيد تعريف الدولة بوصفها مؤسسة تُقاس بالنتائج لا بالشعارات.