: آخر تحديث

حلّ الدولتين: مأزق محور الممانعة والمقاومة

3
3
3

قد يكون حلّ الدولتين، الذي يُروَّج له كمخرج لإنهاء الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، هو في الوقت نفسه بداية مأزق تاريخي لأحد أكثر المحاور جدلاً في المنطقة. فمنذ أن طُرحت هذه الفكرة قبل عقود، لم تتوقف عن إثارة الانقسام بين القوى الدولية والإقليمية. وبالرغم من أن أغلب الأطراف العالمية تنظر إليها باعتبارها الإطار الأنسب لتسوية النزاع، فإنها تمثل كابوسًا لهذا المحور الممتد من طهران إلى بيروت وغزة، إذ لا يراها مجرد تسوية سياسية، بل تهديدًا وجوديًا لمشروعه العابر للحدود. هذا الموقف يرتبط بسياق تاريخي طويل بدأ مع صعود الفصائل المسلحة منذ ستينيات القرن الماضي.

منذ منتصف الستينيات برزت الفصائل القومية واليسارية مثل حركة فتح والجبهة الشعبية، التي تبنّت الكفاح المسلح بدعم من أنظمة ناصرية وبعثية، وشكّلت لسنوات العنوان الأبرز للمقاومة الفلسطينية. وفي السبعينيات بلغت تلك التنظيمات ذروة حضورها، قبل أن يتراجع دورها تدريجيًا مع تحوّل المزاج الشعبي العربي إلى التدين. وفي الثمانينيات أثمر هذا التغير دخول الساحة فصائل إسلامية سنّية مثل حماس، ثم برزت لاحقًا ميليشيات شيعية في لبنان بزعامة حزب الله، لتتغير بذلك خريطة "المقاومة المسلحة" من يسارية قومية إلى إسلامية سياسية.

لكن القبول بقيام دولة فلسطينية مستقلة يضع نهاية لهذا الغطاء. فمع وجود دولة شرعية تمتلك مؤسسات أمنية وقضائية، لن يبقَ مبرر لميليشيات تعمل خارج القانون. ما كان يُقدَّم في صورة "مقاومة" ينكشف كسلطة موازية تنازع الدولة على شرعيتها. وهنا تجد الفصائل نفسها أمام لحظة حاسمة: إمّا الانخراط في مؤسسات الدولة، أو الظهور كجماعات مسلحة بلا شرعية.

وإذا كان الداخل الفلسطيني يواجه مأزق الميليشيات، فإن المحيط العربي يواجه انعكاساته الأخطر؛ فقد استُخدمت القضية الفلسطينية على مدى عقود أداةً للتدخل في شؤون الدول العربية ولتعبئة الجماهير بشعارات قومية أو دينية. الهدف لم يكن التعاطف فحسب، بل إضعاف أنظمة أو إسقاطها لتهيئة الأرضية لمشاريع حكم أيديولوجية: صيغة دينية شيعية بقيادة طهران، أو مشروع إسلاموي سني يتكئ على جماعة الإخوان ومن يقف خلفها من دول داعمة. غير أن الاعتراف الدولي بقيام دولة فلسطينية سيحرم القوى المرتبطة به من وسيلة أساسية لتوسيع نفوذها في الخليج والأردن ومصر والمغرب… حتى تحين الفرصة لتسقط حكامها.

البعد الاقتصادي لا يقل أهمية، فقد نشأت شبكات تمويل واسعة تحت شعار “تحرير فلسطين”، وجمعت أموالًا من التبرعات والتحويلات غير الرسمية، وازدهر اقتصاد الحرب والتهريب. ولكن مع قيام دولة فلسطينية مستقلة، سيصبح استمرار هذه الشبكات موضع مساءلة وملاحقة. عندها لا يكون التهديد سياسيًا فقط، بل للبنية الاقتصادية التي نشأت على هامش القضية، والتي سمحت بظهور طبقة من القيادات الثرية ووفّرت بيئة خصبة للفساد.

ولم يكن الاستثمار في خطاب المقاومة حكرًا على الميليشيات وحدها؛ فاليسار القومي والشيوعي اتخذا من الدفاع عن هذه التنظيمات وسيلة لإحياء حضورهما السياسي بعد أفول مشاريعهما. وقد تحوّل شعار "حماية المقاومة" عندهما إلى قناع للاستمرار، حتى وإن قاد ذلك إلى تبرير التطرف وإعاقة أي حل واقعي.

خلاصة المشهد أن رفض هذا المحور لحلّ الدولتين ليس تمسكًا بمبدأ وطني، بقدر ما هو رهان بقاء. فالحل السياسي يجرّد السلاح من قدسيته، ويكشف أن استخدامه كان وسيلة للهيمنة في الداخل والخارج أكثر منه مشروع تحرير. وكل خطاب رافض للحل يكشف في جوهره شبكة مصالح ونفوذ، لا موقفًا مبدئيًا خالصًا.

إنَّ إدراك هذه الحقيقة يضع العرب والمجتمع الدولي أمام مسؤولية واضحة: دعم قيام دولة فلسطينية لا يُنصف شعبًا محتلًا فحسب، بل يفتح الطريق لتقليص نفوذ الميليشيات وتجفيف منابع اقتصاد الحرب. نجاح الحل سيهزّ هذا التيار الذي قامت شرعيته على استمرار الصراع، وسيضع حدًا لمشاريع تغذي الانقسام والفوضى. والأهم أنه سيكشف الفارق بين من قاتل حقًا دفاعًا عن الأرض، ومن كان يقاتل من أجل المال والسلطة. وأرجو أن الفرصة لم تفت بعد لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، فنتنياهو يبدو أنه يعدّ العدّة لابتلاع الضفة الغربية، بحجة مكافحة إرهاب الفصائل والميليشيات السنية والشيعية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.