يردد العرب على هيئة حكمة أزلية مقولة: "لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم، لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم"، وينسبونها خطأً إلى الإمام علي بن أبي طالب. والمقولة بلفظ: "لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم"، تنسب إلى سقراط، وقيل لأفلاطون، لكن قطعاً ليست لغيرهما. ومن مفارقات العرب ومناقضاتهم لذواتهم أنهم يرددون عند مطلع كل جيل: "جيل فاشل"، وذلك لأنه لا يكون نسخة تقليدية عنهم.
والحقيقة أننا نحظى بسلة وافرة من ألا تذمّر المجتمعات العربية من الأجيال الجديدة، اللهم باستثناء الخطاب الإعلامي للمسؤولين العرب الذين يتغنّون بجيل المستقبل لفظياً، وعملياً يسعون بكل طاقاتهم إلى إفشال الأجيال، خشية أن تنشأ متنورة بنت عصرها، فتشكل خطراً على مستقبل سلطاتهم الدكتاتورية.
من ثوابت الفكر الإنساني إعلاء دور التعليم وتطويره، فهو "أقوى سلاح يمكن استخدامه لتغيير العالم"، وفق ما ذهب إليه نيلسون مانديلا. وهو قول تمتد جذوره إلى عمق نظريات التعليم الحديثة التي ترى أن للتعليم استثمارًا في المستقبل، ووسيلة لتحقيق التنمية المستدامة. "فالتعليم جواز سفرنا إلى المستقبل، والغد ملك فقط للأشخاص الذين يستعدون له اليوم"، كما قال "مالكوم إكس". و"الهدف الأعظم من التعليم ليس المعرفة في حدّ ذاتها بل العمل بها"، كما يرى "هربرت سبنسر".
وفي هذه المقولة تتجلى صناعة عبقرية التفكير بصفته جوهراً حياً للتعليم، لا المعرفة التلقينية التي تستميت السلطات العربية في تكريسها، لأن التفكير البنّاء تهديم لسكونيتها التي تلتزم بها لإطالة عمر سلطاتها. فالتعليم في فقهها السلطوي هو "محو الأمية الأبجدية" لا الأمية الفكرية.
لذلك تجد الفكر العربي موجهاً بفلسفة تلك السلطات التي تفرط في نشر فكر سكوني جامد، ليس ذلك من خصائص العقل العربي والطبائع التي استمدها من بيئته الثقافية والاجتماعية، بل هو نتائج إستراتيجيات سياسية تتبناها سلطاته على مرّ التاريخ المعاصر على الأقل، أي سلطات ما بعد الاستقلال.
جعلت هذه الإستراتيجيات الفكر العربي يغرق في جدل يكرس الثبات والجمود، والتقوقع حول قضايا كفنّها التاريخ، وأنشأت مثقفين ومفكرين يؤدون هذه الوظيفة بإتقان.
نجد على سبيل المثال الكثير من المفكرين العرب مازالوا يبحثون في فكرة الاشتراكية التي كتب عنها في بلاد المنشأ والبلاد المقلدة والتابعة والمناوئة ما استنفد كل ما يمكن أن يكتب، وهذا ما يقال فيه: إيلام الميت الذي لا تؤلمه جراح.
ونجد دارسين مدججين بألقاب أكاديمية غير عاقة لبركات أولئك الذين نعمتهم السياسية، يفنون علمهم وتفكيرهم باستنباط أمثلة تدل على نكران العدل في الاشتراكية وانحيازها إلى إحباط التفرد والتميز.
ويتجاهلون أن الاشتراكية تجربة في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، أعلنت إفلاسها في بلاد رعاتها الذين انقلبوا عليها، ولم يبق لها إلا أنماط بائسة يلزمها أن تعيش في عزلة فكرية تمكن سلطاتها الدكتاتورية.
السؤال الذي يحفّز التفكير البنّاء يتمحور حول أمد بقاء الفكر العربي أسيراً للتجارب الماضية التي تجاوزتها الحضارة مثل الاشتراكية والقومية والقبلية، وجدلية الحداثة والتراث.
لم يزل التفكير العربي مشغولاً فيما لا يلزم لزمان مجتمعه ومستقبله، ففي التفكير السياسي، مازال حراسه يحرسون فكرة المؤامرة والماسونية، ويردون كل خيبات العرب السياسية وتقهقر خطاها على طريق الحضارة والتكنولوجيا إلى ساحر سرقت عصاه الماسونية وفقأت عينيها المؤامرة الكونية.
ولا يختلف ذلك الخلل الفكري عند العرب حتى عند نخبتهم الثقافية، فهي تتقوقع حول نظريات فكرية أدبية تجاوزها مبدعوها، فما يزال النقد العربي يحفل بالبنيوية بينما اندثرت عند مبدعها وتجاوزها.
كان الأجدر بالفكر العربي أن يفيد من تراكم التجارب للانطلاق إلى بناء تفكير ملائم لمجتمعه وثقافته وتطويرهما لا التوقع حول مورث هجين عصريًا.
المشكلة في العقل العربي أنه لم يزل عقل نقل وتقليد، عقلاً سكونياً، ولا يرجع ذلك إلى طبيعته، بل إلى تكوينه المقصود في التربية والتعليم اللذين تهيمن عليهما سياسة لا تعيش إلا في عزلة حضارية لمجتمعاتها، وتعمل على أن تكون طبيعة سكونية التفكير العربي هي أهم معوقات استوائه على درب التطوير والحضارة، واختراق طوطم سياستها الأبوية.