كلما تأملت علاقتي بما حولي، يزداد يقيني أنني لا أعيش العالم كما هو، بل أعيش نسخةً مصنوعةً داخلي. ما تلتقطه عيناي وأذناي وجلدي ليس الحقيقة العارية، وإنما شظايا من إشارات فيزيائية عابرة، يعيد دماغي تركيبها في مسرح داخلي أسميه (الواقع).
لكنني أدرك أن هذا الواقع ليس هو العالم نفسه، بل محاكاة ذهنية أعيشها كما لو كانت الحقيقة المطلقة. إنني لا أرى العالم… بل أرى ظلال دماغي.
حين أنظر إلى وردة حمراء، يخيل لي أن اللون يسكنها، أن الاحمرار جزءٌ من كيانها، لكني أعلم أن الوردة لا تحمل في ذاتها شيئاً اسمه (أحمر).
ما فيها مجرد ذبذبات ضوئية بطول موجي معين، تصطدم بعيني، ثم تتحول في داخلي إلى إشارات كهربائية، وبعدها ينحت عقلي إحساساً بصرياً أسميه (لوناً)…
فهل الأحمر حقاً في الوردة، أم أنه في دماغي؟ وهنا أكتشف أنني لا أرى الوردة، بل أرى صورةً من صنع جهاز عصبي.
وإذا أرهفت سمعي لمقطوعة موسيقية، أشعر أن الصوت ينساب من الآلات ليعانقني مباشرة. لكن الحقيقة أن الآلات لا تنتج إلا اهتزازات في الهواء، ذبذبات عارية بلا معنى. المعنى يأتي عندما تترجم أذني هذه الاهتزازات إلى إشارات، ويحوّلها دماغي إلى موسيقى. إذن، أنا لا أسمع الموسيقى، بل أسمع تأويل دماغي للذبذبات. حتى لذة السمع محاكاة، حتى الألم ذاته إعادة بناء عصبية.
لقد بدأتُ أرى أنني أعيش داخل كهف خاص بي، ليس كهف أفلاطون وحده، بل كهف عصبي يحيط بوعيي من كل الجهات. ما أظنه حقيقة قد لا يكون سوى ظل، وما أسميه يقيناً قد لا يكون سوى إسقاط لبرمجة داخلية. إن دماغي لا يهمه أن يمنحني العالم كما هو، بل أن يمنحني نسخة عملية أستطيع أن أتعامل معها. فالهدف الأول ليس الحقيقة، بل البقاء.
وهنا يكمن المأزق: إذا كان ما أدركه ليس سوى محاكاة، فهل يمكنني القول إنني أعرف العالم حقاً؟!
أم أنني محكوم عليّ أن أعيش دائماً على حافة الوهم؟ إنني أؤمن أن هناك فجوة لا يمكن ردمها بين (الشيء كما هو) و(الشيء كما يظهر لي). إيمانويل كانط، فيلسوف ألماني، تحدث عن ذلك حين فرّق بين (الشيء في ذاته) و(الظاهرة). وأنا أجد نفسي اليوم أعيش هذه الفجوة يومياً: أتعامل مع الظواهر وكأنها كل شيء، وأعلم في داخلي أن هناك شيئاً آخر محجوباً عني تماماً.
ولعل ما يزيد قناعتي أن هذه المحاكاة ليست واحدة، بل تختلف من إنسان إلى آخر. أنا أعيش عالمي العصبي الخاص، وأنت تعيش عالمك المختلف. قد تبدو لك زهرة الصباح مبهجة، بينما تراها عيناي حزينة. قد تسمع أنت في لحنٍ ما الفرح، بينما أسمع فيه الشجن. نحن نظن أننا نشارك ذات العالم، لكننا في الحقيقة نتجاور في فقاعات متوازية من محاكياتنا الخاصة. أنا داخل محاكاتي، وأنت داخل محاكاتك، ونسمي هذا (تواصلاً) بينما هو في جوهره مجرد تقاطع ظلال.
هذا الوعي لم يجعلني عبثياً، بل جعلني أكثر تواضعاً أمام المعرفة. حين أرى أن كل حقيقة هي تقريب، وكل يقين محاكاة، أشعر أن الغرور المعرفي مجرد وهم آخر. أنا لا أملك الحقيقة المطلقة، ولن أملكها، لكنني أملك الوعي بأنني لا أملكها. وهذا الوعي، في ذاته، يمنحني حرية داخل سجني.
بل إن المفارقة الكبرى أنني أكتب الآن عن هذه المحاكاة مستخدماً نفس الدماغ الذي يصنعها. أحاول أن أفسر أوهامي بأدوات الوهم نفسه. أشبه سجينًا يناقش طبيعة قضبانه وهو ما زال خلفها. فهل يمكن لي يوماً أن أتجاوز حدود دماغي؟ أم أنني محكوم أن أدور في دائرة أبدية، أُحاكي المحاكاة، وأظن أنني اقتربت من الحقيقة؟
أحياناً أشعر أن هذا الإدراك يحررني من سطوة الصور الزائفة، حين أرى إعلاناً أو خطاباً أو حتى فكرة مشحونة بالعاطفة، أذكر نفسي أن دماغي لا ينقل لي العالم كما هو، بل يضيف من عنده إسقاطات وفلترات. هذا يجعلني أقل قابلية للخداع. وحين أسمع نفسي أجادل بشدة حول مسألة ما، أذكر نفسي أنني أدافع عن محاكاة، لا عن حقيقة مطلقة. فيسكن غضبي، وتلين حدة يقيني.
لكنني، في الوقت نفسه، لا أستطيع إنكار حاجة الإنسان إلى أوهامه. لو كشف لي العالم عريه بلا ستار، ربما لم أحتمل. ربما كنت سأفقد القدرة على العيش. لذلك أرى أن دماغي لا يخونني حين يمنحني هذه المحاكاة، بل يحميني من فيضان الحقيقة الذي قد يغرقني. أنا لست كائناً يبحث فقط عن (الصدق)، بل كائناً يحتاج إلى (قابلية العيش). ومن هنا أفهم لماذا المحاكاة ضرورية: إنها الكذبة التي تبقيني حياً.
ومع ذلك، لا أريد أن أنغمس كلياً في هذه الكذبة. أريد أن أظل على وعي بأنها كذبة. هذا الوعي هو ما يجعلني فيلسوفاً داخل محاكاتي. هو ما يفتح أمامي باب التأمل: أن الحقيقة المطلقة تظل غائبة، لكن السؤال عنها يظل حاضراً. أنا أعيش في عالمٍ داخلي، نعم، لكنه عالم يسمح لي بالتفكير في العوالم التي لا أراها. وهذا يكفي لأشعر أنني لست مجرد سجين، بل متسائل على الأقل.
كل ما حولي يذكرني أنني لا أمسك بالعالم، بل بظلاله. اللون، الصوت، الطعم، الملمس، كلها منتجات عصبية. حتى الحب والكره والخوف والشجاعة ليست إلا كيمياء يعيد دماغي تأويلها. لكن بالرغم من ذلك، أنا أعيش هذه الظلال وكأنها الوجود كله. قد لا أصل إلى (الحقيقة العارية) أبداً، لكن يكفيني أنني أدرك أن خلف الظلال حقيقة ما، وأنني أبحث عنها ولو بقيت غائبة.
وهنا يظهر السؤال الوجودي الأكبر: إذا كان إدراكي كله محاكاة، فماذا عن موتي؟ أليس هو أيضاً انتقالاً من محاكاة إلى أخرى؟ ألن يكون الموت ببساطة إغلاق الشاشة التي يعرضها دماغي على وعيي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل هناك شاشة أخرى تُضاء في مكان آخر، أم أن المسرح يُطفأ إلى الأبد؟ لا أملك الجواب، لكنني أشعر أن إدراك حدودي أمام الموت هو ذاته ما يمنح حياتي معنى. فأنا لا أطلب أن أمسك بالحقيقة كاملة، بل يكفيني أن أعي أنني أعيش في مسرح ظلال، وأنني حين أغادره قد أعود إلى حقيقة أوسع، أو ربما إلى العدم نفسه.
إن وعيي بأنني لا أرى سوى ظلال يجعلني أكثر استعداداً للفناء. لأنني أفهم أن ما أفقده عند الموت ليس العالم الحقيقي، بل محاكاته فقط. أما الحقيقة ذاتها، فربما تظل قائمة وراء ستار الإدراك، تنتظرني، أو تتلاشى بي. وهنا يكمن جوهر الإنسان: أن يعيش حياته وهو يعرف أن كل ما حوله ظل، ومع ذلك يتمسك بالسير في الظلال كأنها خلود، لأنه لا يعرف غيرها.
وأقولها لنفسي بصدق: أنا لا أرى العالم… أنا أرى ظلال دماغي. وعندما ينطفئ هذا الدماغ، سينطفئ معه مسرحي، لكن الستار الذي يسدل قد يخفي وراءه بداية أخرى. وإن لم يكن هناك شيء، يكفيني أنني عشت رحلة البحث عن الحقيقة، ولو عبر ظلالها.