ثمّة أوقات يهبط فيها الحزن على أرواحنا كضيف ثقيل لا موعد له، يجلس في صدر القلب ويأبى المغادرة، فيعيد ترتيب ذاكرتنا، ويقلب صفحات أعمارنا كما لو كان يفتش عن أسرار لم نكن نرغب في أن تنكشف. عندها ندرك أن الحزن ليس مجرد حالة عابرة، بل قوّة صامتة قادرة على أن تُهزم الروح، وأن تزرع في داخلنا ندوباً لا تندمل بسهولة.
كم من أشخاص عبروا حياتنا ذات يوم، جمعتنا بهم مقاعد الدراسة، أو ساحات العمل، أو حتى صدفة عابرة في طرقات المدن، ثم مضوا إلى خفاء بعيد، وانطفأت أصواتهم عن سمعنا. مشاغل الدنيا خطفتنا عنهم، وقيود الحياة حالت دون السؤال والاطمئنان، لكن رياح الاشتياق ما تزال تعصف بقلوبنا كلما هبّت نسمة ذكرى أو ارتجف خاطر. أخبارهم التي كانت تصلنا متدفقة عبر الآخرين، انقطعت فجأة، وغدت وجوههم مألوفة في الغياب أكثر من الحضور، فأصبح الماضي وحده من يحمل إلينا صورهم، كأوراق خريفية تعصف بها الريح وتتناثر في أفق الذاكرة.
نبحث عنهم في وجوه العابرين، في أصداء الضحكات القديمة، في أماكن كانوا يجلسون فيها، فنجد أن غيابهم أعمق من أن يُردم، وأن الفقد قد حفر أخاديده فينا. نتساءل مراراً: أين هم الآن؟ أي فضاء يضمهم؟ أأخذتهم أعباء الحياة إلى مهاوٍ بعيدة؟ أم أنهم مكبّلون بتفاصيل مرهقة لا تسمح لهم بالعودة إلى المشهد؟ إننا نعيش وهم البحث عنهم في كل ركن نتصوره، لكننا لا نجد إلا الفراغ، والفراغ أشد قسوة من الفقد نفسه.
وفي مقابل هذا الغياب الموجع، نجد أنفسنا أمام مفارقة صارخة: ثمة مشاهير لم نعرفهم عن قرب، لم يجلسوا معنا في مجلس أو يشاركوا تفاصيلنا الصغيرة، ومع ذلك تتقاطر أخبارهم إلينا لحظة بلحظة. صورهم تملأ الشاشات، حياتهم تبث علناً كأنها كتاب مفتوح، أفراحهم وأتراحهم يتداولها الناس في المجالس ووسائل الإعلام، حتى شيخوختهم نحسبها معهم وكأننا نعيش أعمارهم. وللمفارقة، حين يرحلون، تضج الدنيا بخبر موتهم، وتتسابق الصفحات لتنعى الغياب.
نجوم الأرض هؤلاء، مهما كان محتواهم، يحظون بحضور لا يغيب، وبريق لا ينطفئ. الإعلام يسبقهم، والناس تحفظ أسماءهم، وكأن شهرتهم قد منحتهم حياة مضاعفة، على الرغم من أن الرحيل في النهاية يساوي بينهم وبين كل غائب مجهول لم يُذكر اسمه.
وعندما تقرع طبول الوداع، يهرع الكثيرون لكتابة كلمات النعي، يرفقون صوراً قديمة للراحلين، ويعيدون ذكر بعض أعمالهم، فتتحول صفحات التواصل إلى دفاتر عزاء افتراضية. يكتبون بدموع الكلمات أن الموت غيب العظماء، وأن الفقد موجع. لكن الحقيقة الأعمق أن الموت لا يفرّق بين عظيم وصغير، بين مشهور ومجهول، بل هو الحقيقة الوحيدة التي تقف على مسافة واحدة من الجميع.
الموت، سواء جاء متوقعاً عبر مرض أو فجأة كصاعقة، يتركنا في مواجهة هشّة مع هشاشتنا نفسها. فهو لا يطرق الباب مستأذناً، ولا يمنحنا فرصة لنستعد، بل يأتي بصلابة مطلقة، مزيحاً كل ما نرتبه من خطط وأحلام. العقول الضعيفة والقلوب الرقيقة تجد صعوبة بالغة في استيعاب هذا الحدث؛ إذ يبدو الموت بالنسبة لها فاجعة لا تفسير لها، درساً عسيراً لا سبيل لفهم حكمته. وكثيرون يعتقدون أن موت الفجأة أشدُّ قسوة، لأنه يُحرمنا حتى من لحظة الوداع.
وقد صدق من قال: السعادة المفرطة كالحزن المفرط، كلاهما يضيق به الصدر إذا لم يجد من يشاركه. فالموت يفتح باباً واسعاً للحزن، ويضعنا أمام مسؤولية إنسانية كبرى: جبر القلوب المكسورة. فنحن كبشر لا نملك أن نمنع الموت، لكننا نملك أن نخفف عن بعضنا وطأته، أن نضمّد جراحاً تنزف في صدور الآخرين، وأن نكون سنداً حين ينهار أحدهم تحت ثقل الفقد.
لكن، أي ثقل هذا؟ إنَّ الوجع أحياناً يتجاوز طاقة البشر، يغدو كحمولة زائدة لا تستطيع الروح حملها. الموت ليس مجرد انفصال الروح عن الجسد، بل هو انقطاع صاخب يقتلع الإنسان من سياق حياته، ويترك الآخرين في فراغ هائل. ليس الموت مجرد صرخة ألم ولا مجرد صوت سلام، بل هو حدث يتجاوز حدود الزمان والمكان، لا يوقفه جدار، ولا تحده قوانين. إننا لا نفقد شخصاً فحسب، بل نفقد معه معنى كان يضيء حياتنا.
ولطالما أدهشتني الأقوال التي تخرج من أفواه العظماء: الفلاسفة والأدباء والمفكرون. منهم من شبّه السلام بالحرب، كلاهما معركة لها خطط وجيوش ومكائد. ومنهم من اعتبر الثقة بالنفس ساحة نضال ضد الهزيمة الداخلية. ولعل أصدق ما قيل إن البكاء ليس عيباً، والصمت ليس ضعفاً، بل هما لغتا الروح حين تعجز الكلمات.
فعندما نفقد عزيزاً، نجد أنفسنا أمام خيارين: إما الصمت الذي يبتلعنا، أو البكاء الذي يفيض عنا. والصمت في أحيان كثيرة أبلغ من ألف خطاب، والبكاء ليس ضعفاً بل اعتراف بأننا بشر، نملك قلوباً تحب وتضعف. إن المشكلة ليست في الدموع، بل في الزيف حين ندعي القوة ونحن منهارون من الداخل. كم من إنسان تصنّع الصلابة حتى تحولت إلى جدار خانق حجب عنه نور الشفاء.
غير أن الصعوبة الأكبر لا تكمن في لحظة الفقد ذاتها، بل فيما يليها: مرحلة التعايش مع الغياب. هنا تبدأ معركة العقل مع نفسه، وهنا يتضح مدى هشاشتنا أمام التفكير المفرط. لقد ذكر الأطباء النفسيون أن أخطر ما يواجه الإنسان اليوم هو عجزه عن إيقاف عقله عن التفكير. فالعقل يظل يفتش في الماضي: هل كان بالإمكان أن أفعل شيئاً؟ يعود للحاضر: كيف أستمر بدونه؟ ويقفز إلى المستقبل: ما الذي ينتظرني بعد هذا الفقد؟ ومع كل ليلة، حين يضع رأسه على الوسادة، يتسع هذا الصخب حتى يغدو الأرق رفيقاً دائماً.
وهذه اللحظة ـ لحظة الصراع مع الفكرة ـ هي النقطة التي تُستنزف فيها الروح. كأن ملايين الخناجر مغروسة في القلب، وكلها تعزف نغمة واحدة: لم يعد موجوداً. وبينما يحاول الإنسان التشبث بالإيمان والرضا بالقضاء، يبقى داخله صوت آخر يرفض التصديق. وهنا يكمن الامتحان الأكبر: هل يستطيع أن يوازن بين الإيمان بالحكمة والحنين الجارف؟
وقفت مرة أمام كلمات كتبها مدون مجهول على صفحات التواصل: "الحزن مادة عديمة اللون، يفرزها شخص ما، تنتقل منه إلى كل ما حوله، تُرى آثارها ولا تُرى هي." وأعدت القراءة مراراً. هل هذا توصيف صادق؟ هل الحزن فعلاً طاقة تتسرب منا إلى الأشياء؟ ربما. إذ كيف نفسر أن بيتاً كان مليئاً بالضحكات، يغدو فجأة صامتاً كالمقبرة بعد موت أحد ساكنيه؟ أو أن صورة معلّقة على الجدار تنقلب فجأة إلى خنجر في الصدر كلما وقع نظرنا عليها؟
الحزن إذن ليس شعوراً داخلياً فحسب، بل هو مناخ يلفنا، يغير ألواننا، يترك أثراً في كل ما نلمسه. ولهذا فإن مواجهته ليست سهلة، لأنه يتسلل إلى تفاصيل الحياة كلها.
لكن، هل الحزن عدونا؟ أم أنه جزء أصيل من إنسانيتنا؟ لعل الحقيقة أن الحزن هو الوجه الآخر للحب. فلو لم نحب بصدق لما حزنا بهذا العمق. ولو لم نتعلق بالآخرين لما شعرنا بهذا الفراغ عند غيابهم. وهنا يكمن السر: الحزن شهادة حب، وإن كان وجعه فادحاً.
وعلى الرغم من قسوته، يمكن للحزن أن يكون معلماً، يعيد صياغة وعينا بالحياة. إنه يذكّرنا بأن كل لحظة نعمة، وأن كل لقاء قد يكون الأخير، وأن الإنسان لا يملك الغد مهما خطط له. الحزن يهدم أوهامنا بأننا خالدون، ويضعنا أمام حقيقتنا الأولى: أننا عابرون.
وفي خضمّ هذا كله، تبقى مسؤوليتنا تجاه بعضنا واضحة: أن نكون عكازاً حين يتعثّر أحدهم، أن نمدّ أيدينا لجبر القلوب، أن نخفّف وطأة الحزن بتعاطف صادق، لا بشعارات عابرة. فالبشر وُجدوا ليكونوا سنداً، لا ليتركوا بعضهم يغرق في العزلة.
الحزن يهزم الأرواح حين يتركها وحيدة. لكنه يتحول إلى جسر للتعافي حين نجد من يشاركنا عبء الغياب. ومهما قست الحياة، سيظل في داخل كل إنسان قدرة على المواساة، على تحويل الجرح إلى درس، والدمعة إلى بذرة نور.