لا تزال تركيا تمارس لعبتها المزدوجة بين روسيا والغرب، وتستثمر بدهاء في "المنطقة الرمادية" الممتدة بين الحرب والسلام، بين الحياد والانحياز، وبين اللغة الدبلوماسية والأفعال العسكرية.
هذا ما يتجلى بوضوح في استمرار الدعم العسكري التركي لأوكرانيا، وخصوصاً في مجال الطائرات المسيّرة. الشركات العسكرية التركية، التي لطالما كانت الذراع المرنة للسياسة الخارجية في أنقرة، لا تزال تورد الأسلحة والمسيّرات بانتظام إلى كييف. وبالرغم من أنّ السلطات التركية تصرّ على تقديم هذه الصفقات بوصفها "تجارية"، و"قديمة العهد" قبل اندلاع الحرب، فإنّ الواقع مختلف تماماً.
فتركيا باتت منخرطة عملياً في دعم الجبهة الأوكرانية، ولو من خلف ستار، حتى وإن حاولت التخفيف من وقع ذلك إعلامياً.
ذروة هذا التورط ظهرت في الثاني من تموز (يوليو) 2025، حين انضمت أنقرة – وإن بشكل غير معلن رسمياً – إلى ما يُعرف بـ"التحالف المسيّر"، وهو مبادرة عسكرية غربية تقودها بريطانيا وتهدف إلى تعزيز القدرات الجوية والتكتيكية لأوكرانيا من خلال تزويدها بآلاف الطائرات المسيّرة، الانتحارية منها والاستطلاعية، إلى جانب التدريب والتأهيل الفني للقوات الأوكرانية.
التحالف هذا ليس مجرد تحرك تكتيكي محدود، بل جزء من هندسة استراتيجية جديدة للحرب، تراهن فيها الدول الغربية على التكنولوجيا الرخيصة والفعالة لتعويض الفارق العددي واللوجستي في ميدان المواجهة مع الروس. وقد تعهدت دول أوروبية كليتوانيا والدنمارك وهولندا بتقديم دعم كبير في هذا المجال، لكن حضور تركيا في هذا التحالف يحمل دلالة مختلفة: إنها الدولة الوحيدة ذات العضوية في حلف شمالي الأطلسي (الناتو) التي تحتفظ بعلاقات مفتوحة مع موسكو، وتبيع في الوقت نفسه السلاح لأعدائها.
أنقرة تحاول التمويه. لا تُعلن عن مشاركتها، ولا تكشف عن نوعية المسيّرات التي تُرسلها، ولا تتحدث عن حجم الدعم العسكري لكييف. تحاول، كالعادة، الحفاظ على "شعرة معاوية". تناور بين المحاور، وتقدّم نفسها كوسيط سلام في العلن، بينما تُبقي خطوطها مفتوحة مع غرفة العمليات الغربية.
لكن هذا التوازن هشّ وخطير. استمرار تركيا في تقديم الدعم العسكري – حتى غير المعلن – قد ينسف ما تبقى من ثقة موسكو في "حياد" أنقرة، ويضعف موقعها كوسيط فعلي في أيّ تسوية مستقبلية. وبالفعل، بدأت الدوائر الروسية تلمّح إلى أنّ الدور التركي في التهدئة لم يعد مضموناً، وأن هناك بدائل أكثر جدية وواقعية، وتلمح موسكو إلى اعتماد دولة من بين: قطر، والسعودية، والإمارات.
والأخطر أنّ تركيا لا تكتفي بدعم المسيّرات، بل يجري جرّها تدريجياً إلى دائرة أوسع من التحالفات العسكرية التي تخدم الأجندة الغربية، تحت عناوين مغرية. أبرزها: إتاحة الفرصة أمامها للمشاركة في تقاسم ميزانية "صندوق الدفاع الأوروبي SAFE"، الذي يتجاوز حجمه 150 مليار يورو.
هذه الأموال تبدو – للوهلة الأولى – فرصة لتعزيز الصناعة الدفاعية التركية، لكنها في العمق قد تتحول إلى شبكة ارتباط سياسي واستراتيجي تقيّد حرية القرار التركي، وتضعف قدرتها على المناورة في ساحات كانت تهيمن عليها ذات يوم.
كل ذلك يجري في وقت تشير فيه تطورات الحرب إلى واقع يصعب تجاهله: أوكرانيا، بالرغم من كل الدعم، لم تنجح في قلب الموازين. والرهان على نصرها بات عبئاً استراتيجياً لا عائد منه.
في المقابل، روسيا تواصل التقدم ولو ببطء، وتراكم أوراقها السياسية والعسكرية على الأرض. من هنا، فإنّ مواصلة تركيا دعم الطرف الأضعف، تُظهرها كدولة تقامر بموقعها وبدورها، بدل أن ترسّخ نفسها كمرجعية توازن وتهدئة.
ما لم تُراجع أنقرة هذه المقاربة، فإنها تخاطر بخسارة كل شيء: ثقة موسكو، احترام الغرب، ودورها كوسيط... والوقت لا يبدو في صالحها.