في زمن تتقاذفه الأزمات وتتشابك فيه أعذار السياسة مع عجز الإدارة، حيث الدولة الاتحادية ما زالت تمارس هوايتها القديمة في اختراع الحجج وقطع أرزاق الناس، خرج مسرور بارزاني، رئيس وزراء إقليم كردستان، ليكتب تعريفًا آخر للسياسة: ليست بيانات ولا مؤتمرات، بل مشاريع ملموسة تنبض في حياة الناس، تضيء بيوتهم وتروي عطشهم وتخضر حدائقهم.
المشروع الأول الذي يتحدث عنه الناس ليس شعارًا انتخابيًا ولا بيانًا إنشائيًا، بل نور يتدفق من الأسلاك: مشروع "روناكي"، كهرباء 24 ساعة بلا انقطاع. في بلاد أُدمِنت الظلام، بدا هذا كالمعجزة. انتهى زمن المولدات، أصواتها المزعجة وروائحها الكريهة، وانتهى معه نفوذ "أمراء الأمبيرات" الذين حكموا أحياء كاملة بقوانين العتمة. اليوم، يشعر المواطن الكردي بالفخر وربما بالسخرية أيضًا: كيف لرئيس إقليم أن يحقق ما عجزت عنه دولة نفطية بأكملها منذ عقدين؟
ومع ذلك، لم يغب "المُثبطون". قالوا إن أسعار "روناكي" مرتفعة، وكأن الكهرباء يجب أن تُوزع مجانًا في زمن تُباع فيه حتى أنفاس البشر. هؤلاء يتجاهلون أن الأسعار أرخص من الخليج وأوروبا، وأن المشروع لا يضيء البيوت فقط، بل يعلّم الناس ثقافة الاقتصاد في الاستهلاك، فيحوّل الطاقة من عادة مسرفة إلى وعي جديد، ومن مصباح مضيء إلى درس في المسؤولية.
أمَّا الماء، ذلك العنصر البسيط الذي صار في مدن العراق رفاهية نادرة، فقد تحوّل في كردستان إلى حق دائم. بمشروع استراتيجي ينقل مياه الزاب إلى بيوت الناس، على مدار الساعة ولمدة خمسين عامًا، طويت صفحة الآبار العشوائية وصهاريج الانتظار. هنا الماء ينساب كما ينبغي، بينما في أماكن أخرى ما تزال الوزارات تعقد مؤتمرات عن "الأمن المائي" وكأنها تكتب فصول رواية خيالية لا تجد من يصدقها.
ثم جاء مشروع الحزام الأخضر في ضواحي أربيل: آلاف الأشجار تُزرع لتقاوم الغبار، وتلطّف الهواء، وتعيد للمدينة أنفاسها. ليست مجرد حملة تشجير موسمية، بل رؤية لمدينة تحاصر التصحر وتستعيد علاقتها بالطبيعة، في وقت يختنق فيه العراق بالغبار حتى غدا الهواء سلعة نادرة.
ولأن العمران هو الوجه الآخر للحياة، انطلقت مشاريع الطرق الكبرى داخل الإقليم، لتنظيم المدن بجسور وأنفاق وحدائق، وتحويلها إلى مدن عصرية تقف بثقة أمام عواصم العالم. هنا لا إسمنت عشوائي يبتلع الأفق، بل عمران يطمح لمجاراة المستقبل.
والمفارقة التي تثير السخرية أن كل ذلك يحدث بينما حُرم الإقليم من حصته في الموازنة لسنوات، وقُطعت رواتب موظفيه في محاولة لخنق أنفاسه. لكن النتيجة جاءت معكوسة: لم يخنقوا سوى أنفسهم. هناك تتقهقر الخدمات وتذوي مؤسسات الدولة كأطلال مهجورة، وهنا تتفتح المشاريع كحدائق ربيع تضخ الحياة في البيوت والشوارع. هناك يضيئون ليلهم بوميض الشموع، وهنا يضيء الكردي منزله بمصابيح العمل الدؤوب، كأنما يكتب درسًا في الضوء على جدار العتمة.
مسرور بارزاني، بمتابعته اليومية لهذه المشاريع، قدّم درسًا بليغًا في القيادة: أن السياسة ليست بيانات "السيادة" ولا شعارات "التحرير"، بل أفعال ملموسة تُترجم في حياة الناس. وإذا كان المواطن العراقي في بقية المحافظات يبيت على صوت المولدة الأهلية، فإن المواطن الكردي ينام ويصحو اليوم على إيقاع كهرباء وماء وهواء نظيف.
إنَّها سياسة تحوّل الخطاب إلى واقع، والشعارات إلى خدمات. سياسة تُقاس بمصابيح الشوارع وحدائق المدن، لا بعدد المؤتمرات والشعارات. وذلك، بحد ذاته، كاف لأن يشعر المواطن هنا بأنه يملك ما لا تملكه "الدولة الكبرى": حق العيش بكرامة في بلد يشبه العالم.
وأنا، ابن بغداد، شاءت الأقدار أن أقيم في أربيل، حيث وجدت إنسانيتي وأمني، وفيها التاريخ والتسامح والأمان، واستعدت ذكرياتي الاجتماعية بعد غربة طويلة. وبالرغم من أن في جيبي إقامة دائمة في بلد مزدهر يحلم به كل إنسان، فإني لست مجبرًا على النفاق، ولا أسعى وراء مكاسب: لا بيتًا أطلب، ولا مزرعة أرتجي، ولا نفطًا أمد يدي إليه، ولا مقامًا أستقر فيه.
إنما هي الحقيقة، ولو أحرجت بعض من أعمَت بصائرهم عُقد العنصرية: شكرًا كاكا مسرور… فقد جعلت السياسة ضياء في البيوت، وماء في الصنابير، وخضرة في الحدائق.
سوپاس کاکا مەسرور.