: آخر تحديث

تحليق...

4
3
4

"ستّل جناحه ثم حام،
يرقى على متن الهواء،
يزفه بعيدًا وأنا
محدود في حدّ النظر"

مقيّد بثقل الجاذبية، وبمحدودية البصر.

لكن للإنسان أجنحة أخرى، أجنحة لا تراها العين، أجنحة من فكر ولغة، قادرة على أن تشقّ المكان والزمان معًا. فإذا كان الطائر يحلّق في فضاء اللحظة، فإن الإنسان يحلّق في فضاءات الماضي والمستقبل، بوساطة لغة هي ـ كما قال هايدغر ـ مسكن الكينونة. وما دامت اللغة مسكن الكينونة، فهي المسؤولة عن انكشافها واحتجابها: فإن وقفنا عند حدود ظاهرها، بقينا في حجاب؛ وإن اقتحمناها، تكشّفت لنا طبقات الكينونة غرفة بعد غرفة.

هنا يحضر بيت من الشعر الشعبي، بيتٌ يبدو بسيطًا للوهلة الأولى، لكنه يخفي في أعماقه أبوابًا لانكشافات لا تقل شأنًا عن فلسفات القرن العشرين:

"خذت بقعاء رجال العرف والباقي رجال أعمال

هياكل تحت أسامي يا معليها توطيها"

مفردات قليلة، لكنها مشحونة:

أخذ، بقعاء، عرف، أعمال، هياكل، أسامي، علو، وطء.

كل مفردة هنا مشروع انكشاف. وكما لا يكفي أن يقف الشاعر عند حدّ النظر وهو يراقب طائرًا، لا يكفي لنا أن نقف عند حدود الكلمات. لا بد من اقتحامها، من الولوج إلى طاقتها.

أخذ: متى نأخذ شيئًا؟ وهل يؤخذ كل شيء؟ في بيت الشاعر ضيدان بن قضعان هذا، "بقعاء" ـ أحد أسماء الموت ـ هي الآخذة. لكنها لا تأخذ بعشوائية، بل تختار. هنا يختلف موت ضيدان بن قضعان عن "المنايا خبط عشواء" عند زهير بن أبي سلمى. فموت ضيدان يشتهي، يفضّل، يختار. إنه أشبه بإنسان سبينوزا الذي لا يتحرك إلا بالرغبة.

وهكذا، في مقابل العشوائية التي عبّر عنها زهير بن أبي سلمى:

"رأيتُ المنايا خبطَ عشواءَ من تُصبْ

تمتهُ ومن تُخطئ يُعمَّر فيهرَمِ"

نجد أن موت ضيدان بن قضعان ليس خبط عشواءً، بل مشتهٍ، راغب، متحيّز.

رجل الأعمال ليس إلا هيكلًا خواء، اسمًا بلا مسمّى، هياكل فارغة تعلوها أسماء، فإذا ما أُهملت الأسماء، سقط ما تحتها تحت وطء الأقدام. وكأن الشاعر يشير مبكرًا إلى خواء العلامات التجارية والواجهات البراقة التي ترفع تلك الهياكل النخرة.

أما المعرفة فهي الامتلاء. ومن هنا أستحضر قول أفلاطون: "المعرفة تذكّر". أفلاطون الذي عاش قبل أربعةٍ وعشرين قرنًا ولا يزال حيًّا في فكرنا، يجعل المعرفة فعلًا زمانيًا بامتياز: استدعاءً للماضي واستشرافًا للمستقبل. وهكذا، بينما الطائر مسجون في "الآن"، يملك الإنسان بالمعرفة واللغة قدرةً على طيّ الزمن، على التحليق فيما وراء اللحظة.

بل إن التذكّر يعيد إلينا أصوات أجدادنا، كذاك الشيخ الكبير من أقاربي الذي كان يقول: "تراني أعرف العلوم". وهنا تنفتح أمامنا مفردتان: معرفة وعلوم. المعرفة فعل ذاتي، وجودي، يتجذر في الكينونة؛ أما العلوم فهي تراكم خارجي، مؤشَّر عليه، وبعضه ربما متجاوز.

هكذا نرى كيف أنّ بيتًا شعبيًا محلّيًا يفتح لنا أبواب هايدغر وسبينوزا وزهير بن أبي سلمى وأفلاطون في آن واحد. من مفردة إلى مفردة، من غرفة لغوية إلى أخرى، ينكشف لنا المسكن الذي نعيش فيه جميعًا: مسكن الكينونة.

وللحديث بقية، فكل كلمة جناح، وما زلنا نحلق في مسكن الكينونة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف