بالرغم من أنَّ القمة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، في "ألاسكا" الأميركية، في 16 آب (أغسطس)، لم تفضِ إلى اتفاق سلام بشأن الحرب في أوكرانيا، إلا أنها أثمرت عن تقدم في المفاوضات. والأهم أنها عبدت الطريق أمام تثبيت تحول جيو – استراتيجي على صعيد التوازنات العالمية.
تحول الموقف الأوروبي
سعى الاتحاد الأوروبي إلى تحويل الحرب في أوكرانيا إلى أداة استراتيجية، عمل على توظيفها لتحقيق مكاسب جيوسياسية، ولذلك واصل الاستثمار في إطالة أمدها بمختلف الوسائل السياسية والعسكرية والمالية.
بيد أن وصول ترامب إلى البيت الأبيض في ولاية ثانية قلب استراتيجياتها رأسًا على عقب، مع تبنيه منذ بدء حملته الانتخابية موقفًا مغايرًا لإدارة سلفه جو بايدن، الذي جعل بلاده رأس حربة في تحالف غربي واسع ضد روسيا، حيث عمل ترامب على إنهاء التورط الأميركي في تقديم المساعدات المالية والعسكرية إلى كييف، في موازاة تكثيف مساعيه لإنهاء الصراع من خلال إطلاق حوار مباشر مع الرئيس الروسي.
ما بين التواصل الهاتفي المباشر وزيارات مبعوثه ستيفن ويتكوف، خطا ترامب خطوات جدية لإبرام تسوية تتيح التوصل إلى اتفاق سلام، جعلت بروكسل تجد نفسها في موقع الخاسر الأكبر، بعدما استبعدت عن طاولة المفاوضات.
لم تفلح الضغوط والإغراءات التي قدمها القادة الأوروبيون إلى الرئيس الأميركي في تحسين وضعية بروكسل السياسية، مما اضطرها إلى إجراء تحولات مذهلة في موقفها من روسيا والحرب في أوكرانيا. فبعدما كان هدفها إخضاع روسيا وإضعاف دورها وتأثيرها في صياغة القرار العالمي، واستخدمت العقوبات كسلاح بارز في هذا السبيل، صار هدفها في الوقت الراهن منع تفرد ترامب في مناقشة شروط السلام مع بوتين على حساب مصالحها الاستراتيجية والسياسية.
لذلك استخدمت بروكسل ما في جعبتها من أوراق محدودة التأثير لفتح ثغرة في الجدار الأميركي، تتيح لها الحصول على مقعد جانبي على طاولة المفاوضات، واستفادت من علاقاتها مع بعض النخب الفاعلة في دوائر القرار الأميركية، التي لا تزال تحت تأثير التحالف الغربي التاريخي بين ضفتي الأطلسي، من أجل إقناع ترامب بتوسيع دائرة المفاوضات، وإشراك الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي.
وبالفعل هذا ما تمكنت من تحقيقه، من خلال اجتماع الرئيس الأميركي بزيلينسكي بعد يومين من قمة "ألاسكا"، والذي ضم القادة الأوروبيين ومسؤولين في الاتحاد الأوروبي.
مبادرة ميلوني
في الواقع، فإن هذا الاجتماع أظهر مدى ضعف الموقف الأوروبي، حيث وضع ترامب كبار قادة ورموز القارة العجوز أمامه مع زيلينسكي، مثل التلاميذ في الصف، وراح يشرح لهم رؤيته لاتفاق السلام وخريطة أوكرانيا الجديدة، المتسقة مع الوضع الميداني، والتي تؤكد مضيه في منح روسيا على الأقل منطقة "الدونباس"، بالإضافة إلى شبه جزيرة "القرم"، والتي يبدو أن بروكسل وكييف سلمتا بكونها خارج دائرة النقاش.
الدلالة الأبرز على تحول الموقف الأوروبي تتمثل في المبادرة التي قدمتها رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، والتي تعد من القادة الأوروبيين الأقرب إلى نهج ترامب وأفكاره، وتنص حسبما أشارت وكالة "بلومبرغ" على آلية مؤسسية لتقديم الدعم الجماعي لكييف، على غرار المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي "الناتو"، في مسعى يرمي إلى تسريع وتيرة مفاوضات السلام.
هذه المبادرة تحاكي الشروط الروسية إزاء الضمانات الأمنية، وتؤكد أن انضمام أوكرانيا إلى "الناتو" لم يعد مطروحًا على طاولة البحث. وتعتبر هذه المبادرة الأكثر جدية، في ظل استبعاد الطرح الذي قدمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لنشر قوات فرنسية وبريطانية وألمانية على الأراضي الأوكرانية، في ظل رفض ترامب الصارم إرسال قوات أميركية. وكذلك استبعاد طرح آخر يتمثل بإرسال قوات حفظ سلام تابعة لـ"الأمم المتحدة"، نظرًا لحاجة هذا الطرح إلى موافقة جميع الدول الأعضاء في "مجلس الأمن الدولي".
الهدف من المبادرة هو احتواء هواجس كييف، حيث تنص على تقديم دعم دفاعي سريع لها في حال تعرضها إلى هجوم روسي، بالإضافة إلى مساعدات اقتصادية ودعم لجيشها، مع فرض عقوبات على موسكو. مع الملاحظ أن المبادرة تتجنب تمامًا أي تورط أوروبي مستقبلي عبر إرسال قوات عسكرية إلى الأراضي الأوكرانية.
عقبة أمنية تمنع القمة الثنائية
المبادرة التي قدمتها ميلوني بعد اجتماع القادة الأوروبيين مع زيلينسكي بترامب، أحدثت خرقًا أوروبيًا جديًا، عزز جهود ترامب للجمع بين الرئيسين الروسي والأوكراني في قمة ثنائية. وبالرغم من تكثيف المحادثات على أكثر من صعيد من أجل انعقادها، إلا أن التقارير والتسريبات الإعلامية تشير إلى أن ثمة معوقات ما زالت تحول دون ذلك.
عدا عن الفجوة في المواقف والشروط، وخصوصًا من الجانب الروسي، في ظل التساهل المتدرج الذي يبديه زيلينسكي، بدافع الحرص على عدم استبعاده من المفاوضات، وما يعنيه ذلك من خسارة فادحة له على الصعيد السياسي، فإنه ثمة مسألة جوهرية تتعلق بتنظيم الأمن في هذه القمة.
ذلك أنَّ وجود بوتين يتطلب اشتراك جهاز الأمن الفيدرالي الروسي في التنظيم وإجراءات الحماية، وكذلك اشتراك الأمن الأوكراني، الأمر الذي يشكل معضلة في ظل انعدام الثقة بين الجانبين، وخصوصًا من الجانب الروسي، بعد الهجمات التي نفذها الأمن الأوكراني في الداخل الروسي وأدت إلى اغتيال قادة عسكريين وعلماء، واعتبار أنه يشكل خطرًا حقيقيًا على حياة بوتين.
في موازاة رفض روسيا إيكال مهمة أمن القمة إلى طرف ثالث نظرًا لانعدام ثقتها بأجهزة الأمن والاستخبارات التابعة للدول الأوروبية، والتي أمدت كييف بالمعلومات الاستخباراتية والموارد العسكرية وحتى البشرية لتنفيذ هجماتها. وبوتين وهو في الأساس رجل استخبارات شديد المراس لا يمكنه التساهل في هذه النقطة. وبالتالي يبدو أن الحل الأقرب هو إما الاجتماع في دولة محايدة تمامًا من خارج دائرة الاصطفافات والتحالفات الأوروبية، وإما تحويل القمة إلى ثلاثية تضم ترامب، تكون إجراءاتها الأمنية مثل قمة "ألاسكا".
وإذا كانت تلك القمة ثبتت التحول في الموقف الأوروبي، فإنها أعادت تظهير بوتين كزعيم عالمي مؤثر، ولاعب سياسي بارع، إذ إنه نجح في كسر دائرة العزلة الغربية بلقائه ترامب. كما أنه خرج من القمة بمكاسب استراتيجية بينتها صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، حيث عاد إلى الأراضي الأميركية للمرة الأولى منذ عقد، واستقبل بالمقاتلات الأميركية والسجادة الحمراء. والأهم حسب الصحيفة أنه خرج من اللقاء دون تقديم تنازلات كبيرة، مع الحفاظ على علاقة ودية مع ترامب المزاجي. بينما أمعن زيلينسكي والقادة الأوروبيون في التملق له وتقديم الصفقات التي يمكنها أن تلين موقفه خلال الاجتماعات التي عقدوها معه.