في إحدى جلسات "المقهى الثقافي العربي" الافتراضي، حيث يتجمع ثلة من الأدباء والكتاب، انفجر النقاش حول ما أُشيع عن نظرية هندية عجيبة للعلاج بالضرب على الرأس! تحمس أحد الإخوة الكرام لهذه "الفكرة الهندية الجيدة" – كما وصفها – وهي نظرية عملية مذهلة تقترح أن يقوم المرء، بعد إنجازه لعمل شاق، بضرب رأسه في الجدار ثلاث مرات! على أن لا يعود لذلك العمل الشاق مرة أخرى.
لكن القصة لم تتوقف عند الحدود الهندية، بل امتدت إلى العالم الغربي المتقدم. فقد أرجع صديقنا الفاضل فضل هذه النظرية إلى البروفيسور الأمريكي الشهير (جيمس قرونق) – هكذا نطقها – الذي أمضى عشر سنوات في بحث ضخم مع زوجته لدراسة التميز في العلاقات العامة، ليخرج لنا بنتيجة عظيمة مفادها
أن المؤسسات التي تمنح النساء مناصب قيادية أكثر نجاحًا. لكن مقدمة كتابه حملت جملة غريبة: "أفضل أن أضرب رأسي في الجدار على أن أعود لمثل هذا العمل الشاق".
هكذا صار صديقنا يروّج لمبدأ "ضرب الرأس في الجدار" بعد أي مشروع مرهق، وكأنها وصفة عملية للراحة من مشاق العمل! ناصحًا الأعضاء والعضوات في مجموعتنا الثقافية بتجربة "ضرب الرأس في الجدار" بعد كل مشروع شاق، على أن لا يعودوا لمثله!
لكنني – بكل تقدير لهذا الحماس – أرى أن هذه "النظرية" ليست بريئة. فبعد أن جعلنا الغرب أشلاء فكرية، هل يريدون الآن أن نصبح أشلاء جسدية؟! مجتمع منسدح، رؤوسه مصدومة بجدران، سهل التشكيل، لا يقاوم ولا ينهض.
وهنا أقدم البديل الشرقي الأصيل: نظرية "الخرونج".:
"الخرونج" – بتشديد الراء وفتحها – كلمة تتعدد معانيها في لغتنا العربية الجميلة. فهي قد تعني "ولد الأرنب" في بعض القواميس، وهو كائن معروف بالخوف والهرب السريع.
ولكن أشهر معانيها في الثقافة الشعبية هو ذلك الذي ذاع في المسرحية الخالدة "شاهد ما شافش حاجة"، حين سأل البطل المحامي: "حضرتك خرونج برضه؟!".
وكلمة "خرونج" في تراثنا الشعبي تعني الشخص التافه، الأمعة، صاحب المنصب بلا موقف، الذي يملأ الكرسي ولا يحل مشكلة، ويخرج من الأزمات بلا قرار ولا مسؤولية.
المقارنة إذن واضحة:
"قرونق": يرهقنا حتى تضرب رؤوسنا عقابًا على الإنجاز.
"خرونج:": لا ينجز أصلًا، فيكون وجوده كله ضربة رأس في جدار الوطن.
وهنا تكمن نظريتي: بينما تريدنا نظرية "قرونق" أن نضرب رؤوسنا حتى لا نعود للعمل الجاد (فتفقد الأمة طاقاتها)، تهدف نظرية "الخرونج" إلى تشخيص الداء الحقيقي الذي ينخر في جسد مجتمعاتنا: كثرة "الخرونجات" في مناصبنا.
انظر حولك في أجهزتنا الحكومية ومؤسساتنا، ستجد أن عددًا غير قليل من المسؤولين هم "خرونجات" بامتياز. لا يعرفون إلا التوقيع على الأوراق دون فهم، وإلقاء الخطب الجوفاء، والتهرب من المساءلة، والاختباء وراء اللوائح عندما تُطلب منهم الجرأة، والابتكار، أو حتى مجرد اتخاذ قرار. هم أبناء نظرية "الخروج" من المأزق بأقل الخسائر الشخصية، ولو على حساب الخسارة الوطنية.
الخيار إذن ليس بين ضرب الرأس أو عدمه، بل بين أن نكون أمة من "القرونقات" المنهكة، أو أمة مغلوبة على أمرها بـ "الخرونجات" القيادية. الخلاصة واحدة: الشلل.
فبدلًا من استيراد نظريات لضرب رؤوسنا، لماذا لا نطرد "الخرونجات" من رؤوس مؤسساتنا أولًا؟ عندها، ربما لن نحتاج لضرب رؤوسنا، لأننا سنبدأ أخيرًا في استخدامها بشكل صحيح.
20:26
من "قرونق" إلى "حرونج"!
مواضيع ذات صلة