إلتون جون غنّى منذ عقود أن كلمة "آسف" هي الأصعب على الإطلاق. وقد كان صادقاً: فالناس يغنونها على المسرح بعيون دامعة، لكن حين يخطئون بحق أقرب أصدقائهم، يختفون فجأة خلف ستارة الكبرياء. الاعتذار في حياتنا اليومية يشبه جهاز التحكم عن بُعد: كلنا نحتاجه، لكن لا أحد يعرف أين وضعه.
المفارقة أن الاعتذار، بالرغم من بساطته اللغوية، يمرّ في أذهاننا عبر لجنة معقدة من المشاعر: الخوف، الخجل، والكبرياء. كل شعور منها يجلس على كرسيه كوزير متغطرس ويصرخ: لا توقّعوا الاعتراف بالذنب باسمي! وهكذا تضيع كلمة "آسف" في بيروقراطية الذات.
السبب الأول لرفض الاعتذار هو أن الكبرياء يضع على أكتافنا نياشين وهمية ويهمس: "لا تنحنِ، فذلك ضعف". وكأن قول الحقيقة يخصم من رصيدنا في بورصة المكانة الاجتماعية. في الحقيقة، نحن لا ندافع عن الكرامة بقدر ما ندافع عن تمثالنا الداخلي المصنوع من الجصّ. المشكلة أن التمثال يتشقق كلما صمتنا، لكننا نظل نلمّعه بمزيد من الإنكار.
السبب الثاني: مواجهة المرآة. الاعتذار يعني أن نرى أنفسنا على حقيقتها، ونكتشف أننا لسنا دائماً "الأبطال النبلاء" كما رسمنا في مخيلتنا. الذنب يقرع الباب برفق، لكن العار يقتحم الغرفة كضابط تحقيق، فيُفضَّل الهروب من المواجهة. إنهما شعوران مثل ضيفين ثقيلين: إذا فتحنا لهما الباب مرة، يخشى المرء أن يقضيا عنده العمر كله.
السبب الثالث: الوهم بأن الاعتذار سيكلفنا أكثر مما نملك. نتخيل أن الطرف الآخر سيطالبنا بتعويضات نفسية ومعنوية ومادية، ربما حتى "دم قلبنا". بينما في الواقع، معظم الناس لا يريدون ذهباً ولا فضة، بل مجرد كلمة صادقة تشعرهم بأنهم غير مرئيين. المفارقة أن الاعتذار لا يكلف شيئاً، لكننا نتصرف وكأنه صفقة في بورصة وول ستريت.
كل هذا يرتبط بنسبة النرجسية التي نحملها في شخصياتنا. النرجسي يرى الاعتذار كزلزال يهدد صورته الفخمة. يفضّل أن يترك الآخرين ينزفون على أن يخدش انعكاسه في المرآة. في النهاية، يحمي صورته لكنه يخسر الآخر. وهنا يتحقق قول نيتشه: "إن الإنسان يفضّل الكذب على نفسه بدلاً من مواجهة حقيقة تجرح غروره."
الحقيقة أنَّ البشر أكثر من أخطائهم. لكننا نخلط بين الفعل والهوية: بدل أن نقول "أخطأت"، نقول "أنا فاشل"، فنغلق باب المصالحة. الاعتذار ليس إعلان إفلاس أخلاقي، بل دليل أننا لا زلنا نرى الآخر. المشكلة أن كثيرين يفضّلون خسارة الآخر على خسارة الوهم بأنهم معصومون.
الاعتذار في عصرنا يشبه عملة نادرة: الجميع يطالب بها، والقليل يملكون شجاعة إنفاقها. إن كلمة "آسف" ليست أثقل كلمة في اللغة كما غنّى إلتون جون، بل أخفّها وزناً، لكنها تحتاج لوزن داخلي هائل كي تُقال. وربما، إذا كنا أكثر صدقاً مع أنفسنا، سنكتشف أن الاعتذار لا يحطم كبرياءنا كما نعتقد، بل يحطم فقط الأصنام الصغيرة التي صنعناها في عقولنا.