في عالم ما بعد الاستعمار، ظلت منظومة القانون الدولي تحمل في داخلها تناقضًا صارخًا: فبينما تُقر الأمم المتحدة بحق الشعوب في تقرير مصيرها، فإنها في المقابل تُبقي حق الاعتراف بالدول الجديدة رهنًا لتوازنات القوة ومجلس الأمن، خصوصًا حين يتعلق الأمر بشعوب واقعة تحت الاحتلال. من هنا، نتقدم بمقترح قانوني يعيد الاعتبار لمفهوم السيادة من منظور الإرادة الدولية الجمعية، وينص على أنه:
"إذا اعترف ما لا يقل عن ثلثي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بكيان سياسي معين بوصفه دولة ذات سيادة – حتى لو كان تحت الاحتلال – فإنَّ هذا الاعتراف الجماعي يُعدّ قرينة قانونية كافية لاعتبار هذا الكيان دولة مستقلة وفقًا للقانون الدولي، ويؤهله للعضوية الكاملة في الأمم المتحدة".
هذا المبدأ المقترح لا يهدف فقط إلى تحرير الشعب الفلسطيني من سطوة الاحتلال، بل يسعى إلى إصلاح بنيوي في النظام الدولي، يُنهي احتكار القوة لصناعة الشرعية، ويُفعّل "الإرادة الجماعية للدول" بوصفها مصدرًا من مصادر القانون الدولي.
أولًا: الإطار القانوني للمقترح
يرتكز هذا المبدأ على جملة من الأسس القانونية الراسخة:
1️⃣ المادة 1 (2) من ميثاق الأمم المتحدة، التي تنص على "احترام مبدأ المساواة في الحقوق بين الشعوب، وحقها في تقرير المصير".
2️⃣ قرار الجمعية العامة 2625 (1970)، الذي أقرّ بوضوح أنَّ "لكل شعب الحق في تقرير مصيره".
3️⃣ نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998)، الذي يحدد الجرائم الواقعة في سياق الاحتلال، ويُثبت وجود شخصية قانونية محمية للشعوب الخاضعة للاحتلال.
4️⃣ السوابق الدولية، مثل الاعتراف بناميبيا تحت الاحتلال الجنوب أفريقي، أو الاعتراف بكوسوفو رغم غياب العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.
ثانيًا: الاعتراف الجماعي كمصدر للشرعية القانونية
في غياب محكمة دولية تفصل مباشرة في "وجود الدولة"، ظل الاعتراف السياسي هو المفتاح. إلا أن فقه القانون الدولي تطوّر ليطرح تساؤلًا جوهريًّا: هل الاعتراف الفردي كافٍ، أم أن الاعتراف الجماعي (من غالبية الدول) يمكن أن يُنتج أثرًا قانونيًّا موضوعيًّا؟
من هنا يكتسب المقترح وجاهته: فإذا كانت الدولة تملك شعبًا، وإقليمًا، وسلطة سياسية، واعترفت بها أغلبية دول العالم، فلماذا يبقى احتلالها ذريعة لتجميد اعترافها الكامل؟ وهل يجوز أن يُكافَأ المحتل بعرقلة الاعتراف، ويُعاقَب الشعب الذي يمارس تقرير المصير؟
إنَّ الاعتراف الجماعي، حين يبلغ حدّ "الثلثين"، يُمثّل تعبيرًا عن الإرادة الدولية الواضحة، ويجب أن يُكتسب على أساسه مركز الدولة قانونًا، تمامًا كما يُعتمد هذا المعيار في قرارات كبرى داخل الأمم المتحدة نفسها، مثل التعديلات على الميثاق أو انتخاب القضاة أو تمرير بعض القرارات ذات الطابع العالمي.
ثالثًا: فلسطين نموذجًا حيويًا للمبدأ
الحالة الفلسطينية تجسّد بشكل واضح الحاجة إلى هذا المبدأ. فحتى اليوم:
1️⃣ تعترف بفلسطين أكثر من 139 دولة من أصل 193 في الأمم المتحدة.
2️⃣ تملك فلسطين العناصر الثلاثة التقليدية لقيام الدولة:
◾️شعب معرّف .
◾️إقليم محدد (الضفة الغربية، القدس الشرقية، غزة).
◾️سلطة سياسية تمثل الفلسطينيين في الداخل والخارج.
◾️ورغم ذلك، يمنعها الاحتلال والفيتو الأمريكي من الحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.
وهنا يبرز الخلل: إذا كانت غالبية العالم تعترف بفلسطين، فلماذا يبقى الاعتراف الرسمي الكامل رهينة لحسابات القوة لا لمبدأ العدالة؟
إنَّ تطبيق القاعدة المقترحة يعني ببساطة: فلسطين دولة ، ليس لأنها نالت موافقة مجلس الأمن، بل لأنها نالت شرعية ثلثي شعوب العالم.
رابعًا: جدوى المقترح وأثره
هذا المبدأ المقترح يحمل مجموعة من الفوائد الاستراتيجية:
1️⃣ تحرير مفهوم السيادة من قبضة الاحتلال العسكري.
2️⃣ كسر احتكار مجلس الأمن للشرعية الدولية.
3️⃣ تفعيل دور الجمعية العامة والإرادة الدولية كمرجعية قانونية.
4️⃣ دعم نضال الشعوب السلمية وإضعاف شرعية القوة الغاشمة.
5️⃣ إعطاء أدوات قانونية للدول الداعمة لفلسطين لتبرير اعترافها على أسس دولية واضحة.
نحو قانون دولي أكثر عدلاً
في اللحظة التي تتواطأ فيها القوة مع الصمت، يصبح القانون الدولي إما أداة للشرعية، أو شاهد زور. والمقترح الذي نتقدم به هنا لا يدعو إلى ثورة قانونية، بل إلى تصحيح مسار يعيد الاعتبار للإرادة الجماعية، ويمنع اختطاف القانون الدولي من قبل قوى الهيمنة.
إنَّ الاعتراف الجماعي ليس مجرّد إجراء سياسي، بل هو تجسيد لإرادة العالم الحر، التي آن لها أن تنتزع السيادة من براثن الاحتلال، وتفرض استقلالها بمرجعية القانون، لا بقوة السلاح.