تظلّ المواقف الثابتة، والمبادئ الإنسانية، والشيم العربية الأصيلة، هي الفيصل الحقيقي مهما حاول "لصوص المشهد" سرقة الضوء أو نسب الفضل لأنفسهم في قضايا ظلّت على مدى الزمن محل نضال ومواقف راسخة لا تُقبل المزايدة.
فالمواقف لا تُشترى ولا تُصطنع، بل تُولد من قلب الأزمات، وتُختبر في أشد اللحظات صعوبة، حين يكون الثمن مكلفًا، وحين تكون الكلمة الصادقة أثقل من الصمت، وأغلى من الذهب. هنا فقط يظهر المعدن الحقيقي للرجال، لا أولئك الذين لا يحضرون إلا بعد أن تتضح الرؤية وتُحسم المعركة.
المؤسف في الأمر أن ترى الجحود والنكران من نفوس اعتادت عقدة النقص، فتقزّمت فيها القيم، واستوطنتها الأنانية، فصارت لا ترى في الأحداث إلا منصّة لعرض الذات. هؤلاء لا يعنيهم الحق ولا يسعون إليه، بل ينظرون إلى كل موقف نزيه باعتباره "فرصة علاقات عامة" أو "مكسبًا سياسيًا" أو "مشهداً استعراضياً" يمكن استخدامه لتعزيز الصورة أو خدمة المصالح.
وفي كل ساحة نضال، نرى ذات النمط: من يقف أولاً ويتحمّل، يُتَّهَم بالمبالغة أو يُتجاهل، ثم يأتي من تأخر، ليُقدَّم على أنه البطل والمنقذ والمبادر! إنها مفارقة مؤلمة، لكنها تتكرر مع كل قضية، وكل مرحلة، وكل معركة شريفة.
من يتابع المشهد بدقة، لن تخفى عليه وجوه "لصوص المواقف"، أولئك الذين برعوا في خطف المشهد، وتزيين أنفسهم بشعارات لم يساهموا يومًا في صنعها. يتقنون لغة المنابر والواجهات، ويبرعون في الظهور عند الحصاد فقط، لا عند البذل والتضحية. يجيدون استثمار الانتصارات، لكنهم غائبون دومًا عن لحظات الخسارة والتحدي والخذلان.
هم لا ينتمون إلى الفكرة، ولا يؤمنون بها، بل يتعاملون معها كملف مؤقت، أو موجة عابرة، فإذا تغيّر اتجاه الريح، كانوا أول من يتنكر أو يقفز إلى ضفة أخرى.
وفي المقابل، يظل أصحاب المواقف الحقيقية راسخين، لا يطلبون التصفيق، ولا يسعون وراء الأضواء، لأنهم ببساطة يتحركون من منطلقات أخلاقية وإنسانية، لا من مصالح آنية. هم من صدقوا ما عاهدوا أنفسهم عليه، فدفعوا الثمن من أعمارهم، وراحتهم، وسمعتهم أحيانًا، لكنهم لم يتراجعوا، ولم يساوموا.
وهنا المفارقة الكبرى: أولئك الذين قدّموا أغلى ما لديهم، لا يَبرُزون، بينما يُرفع من لم يكد يُحرّك ساكنًا. في مشهد يبدو أحيانًا مجحفًا، لكنه لا يدوم. فالمواقف لا تُسرق، وإن سُرِقَ وهجها مؤقتًا. فالحقيقة لا تغيب طويلًا، وإن طال الليل، فإن شمس الإنصاف لا بد أن تُشرق.
وما يغيب عن "لصوص المواقف" أن الذاكرة الجمعية ليست ضعيفة كما يظنون، وأن المجتمعات – وإن سكتت اليوم – فإنها لا تنسى، والتاريخ – وإن كُتب بقلم الأقوياء أحيانًا – فإن الإنصاف فيه لا يغيب عن الصفحات التالية.
وإذا كان الزمن قد مكّن بعضهم من ركوب الموجة، فإن الزمن نفسه كفيل بفرز الأصوات، وإظهار الحقوق، وإنصاف المواقف. لأن التاريخ – ببساطة – لا يرحم.