في الوقت الذي تتسابق فيه دول العالم لتعزيز الديمقراطية وتكريس حقوق الإنسان، تنحو بعض الحركات السياسية في اتجاهٍ معاكس، مستندة إلى أيديولوجيات متطرفة لبناء سلطتها وتعزيز شرعيتها. وتعد الهند اليوم أحد أبرز النماذج على هذا التحوّل، إذ يشهد هذا البلد الذي لطالما قُدّم بوصفه من الديمقراطيات في آسيا، انزياحاً متسارعاً نحو نموذج سلطوي تهيمن عليه رؤية دينية أحادية متطرفة تُعرف بـ"الهندوتفا"، والتي تُذكّر بظلال الحركات الفاشية والنازية التي عرفتها أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين.
تُعرّف "الهندوتفا" بأنّها حركة قومية هندوسية متطرفة تُمجّد الهُوية العرقية الهندية وتوسعها، وتقوم على تصوّر أسطوري لهوية هندية نقية، تضم الهندوس "المالكون الأصليون" للهند، ورفض اعتبار المسلمين والمسيحيين جزءاً من الهوية الوطنية الهندية لأنّهم لا يعتبرون الهند "الأرض المقدسة" لهم، لذلك تراهم غرباء ودخلاء ينبغي "إعادة دمجهم" أو تحييدهم لاستعادة عظمة الماضي الأسطوري الهندي.
يُعد فيناياك دامودار سافاركار الأب الروحي لأيديولوجية "الهندوتفا"، فقد وضع أسس هذه الأيديولوجية في كتابه الذي نُشر عام 1923 بعنوان "أساسيات الهندوتفا"، والذي قدّم فيه تصوراً جديداً للهوية الهندوسية يتجاوز الدين ليشمل العرق والثقافة والتاريخ المشترك. وفيه ميّز بين الهندوسية بوصفها ديانة و"الهندوتفا" كهوية قومية جامعة، معتبراً أنّ الهندوسية ليست سوى جزء من مشروع أوسع هو "الهندوتفا"، الذي عرّفه بأنّه "جميع فروع الفكر والعمل للعرق الهندي وتحيط بوجوده الكامل".
وما يلفت في أطروحات سافاركار هو الإعجاب الصريح بالفكر الصهيوني، إذ تضمّن كتابه إشارات متعددة تدافع عن أهداف الصهيونية، وتستشهد بها كنموذج يُحتذى في بناء دولة قومية على أساس ديني وعرقي، ومن ذلك فكرة النقاء العرقي – الديني، وثنائية الظلم التاريخي المقترنة باستخدام قوة مفرطة ضد الأغيار في الحاضر، والحق الإلهي في الأرض وهو اعتقاد مشابه للاعتقاد بأرض الميعاد عند الصهيونية، ووفقاً لذلك، وسّع سافاركار مفهوم "الهندوتفا" ليشمل ليس فقط الهند الحالية، بل أيضاً جنوب جبال الهيمالايا، وباكستان، وبنغلادش، وسريلانكا، وأفغانستان، وهو ما يعكس الخلفية الفكرية القومية المتطرفة التي استندت إليها "الهندوتفا" لاحقاً في صياغة مشروعها السياسي داخل الهند وفي محيطها الإقليمي.
وفي هذا السياق، يُعد إقليم كشمير اليوم الساحة الأبرز لتطبيق سياسات "الهندوتفا"، إذ لم يعد النزاع عليه مجرّد صراع حدودي مع باكستان مستمر منذ عام 1947، بل تحوّل إلى واجهة أيديولوجية لتجسيد مشروع الهيمنة الهندوسية الذي تنادي به "الهندوتفا"، لاسيّما بعد تولّي حزب بهاراتيا جاناتا، بقيادة ناريندرا مودي الحكم في الهند عام 2014، والذي حوّل هذه الأفكار من نظريات فكرية، إلى سياسات رسمية.
وقد بلغت السياسات الهندوسية الجديدة ذروتها في آب (أغسطس) 2019، عندما ألغت حكومة مودي المادة 370 من الدستور الهندي، التي كانت تمنح إقليم كشمير وضعاً خاصاً من الحكم الذاتي. هذا الإلغاء لم يكن مجرّد تعديل دستوري، بل شكّل تحولاً جذرياً في العلاقة بين الهند والإقليم ذو الغالبية المسلمة.
وقد فجّرت تلك الخطوة غضباً شعبياً واسعاً، وأعادت إحياء النزاع السياسي بأبعاد دينية وقومية خطيرة. رافقها إجراءات أمنية غير مسبوقة، تمثلت في قطع الاتصالات والإنترنت، ونشر آلاف الجنود، وشن حملات اعتقال جماعية استهدفت سياسيين ونشطاء ومواطنين، فضلاً عن استقدام مستوطنين هنود إلى الإقليم ذي الغالبية المسلمة، في خطوة اعتبرتها منظمات دولية ومحلية محاولة لتغيير التركيبة السكانية لكشمير، على غرار ما تمارسه إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وعليه، تسعى "الهندوتفا" من خلال هذه السياسات إلى فرض تصوّرها الخاص عن الوحدة الهندية، التي لا مكان فيها لاختلاف ديني أو ثقافي، مستخدمة قضية كشمير لتغذية الخطاب القومي في الداخل، وتحقيق مكاسب سياسية في الشارع الهندي، عبر تصوير المسلمين، في كشمير وفي عموم البلاد، الذين يبلغ عددهم قرابة 200 مليون، كتهديد للأمن القومي والنقاء الثقافي.
لذلك لا يمكن اعتبار الحرب الهندية في كشمير مجرّد مواجهة مع الانفصاليين أو صراعاً حدودياً مع باكستان، بل تُمثّل ضرورة سياسية وأيديولوجية، تعبّر عن جوهر عقلية "الهندوتفا"، التي تقوم على رفض التعددية، والنظر إلى وجود "الآخر"، خصوصاً المسلم، بوصفه تهديداً لهوية الأمة الهندية. ففي هذا السياق تحاول "الهندوتفا" استثمار العلاقة العدائية مع الجار المسلم باكستان لخدمة أجندة داخلية أوسع، كتبرير عسكرة الداخل الهندي، وصياغة خطاب قومي متوتر يُغذّي مخاوف الأغلبية الهندوسية من الخطر الخارجي، ويعيد إنتاج سردية "الهند المحاصرة" التي تحتاج إلى حماية.
تُعزز هذه السردية من شرعيّة مشروع "الهندوتفا"، وتمنحه دعماً انتخابياً واسعاً، خصوصاً في الولايات ذات الكثافة السكانية الهندوسية. هناك يُحاول مودي تسويق نفسه كزعيم حازم يصون الهند من التهديدات الوجودية.
ختاماً يمكن القول إنّ "الهندوتفا" في جوهرها ليست مشروع وحدة، بل مشروع استقطاب، وهي حين تتغذى على كشمير، لا تبحث عن حل سياسي، بل عن نصر رمزي يعيد تشكيل هوية الهند بحسب تصورها الأحادي، والمخيف أنّ هذه العقيدة لا تكتفي بإعادة تعريف "العدو"، بل تسعى لإعادة تعريف "المواطنة" و"الولاء" و"التاريخ" و"الذاكرة الجماعية". ومن هنا، فإنّ الصراع على كشمير لم يعد مجرّد صراع حدودي، بل معركة على مستقبل الهند نفسها: هل تكون دولة متعددة الأديان واللغات، أم تتحوّل إلى نسخة هندوسية من الدول الثيوقراطية؟ الإجابة، كما يبدو، تتوقف على ما إذا كان الشعب الهندي قادراً على كبح جماح "الهندوتفا"، قبل أن تبتلع ليس كشمير فقط، بل روح الهند الديمقراطية نفسها.